«كنا متشبثين بأراضينا و بقريتنا التي عشنا فيها ، و إننا لنفخر و نعتز بأن اليهود لم يُهانوا في موقعة كما أُهينوا في معاركهم جميعها على أرض "لوبية" ... إذ بقي قتلاهم على أرضنا و لم يجرؤوا على استعادة أي جثةٍ منهم ..» .. بهذه العبارة و بهذا الحماس الشديد يبدأ نظمي خليل عثمان "أبو خليل " المولود عام 1929م من لوبية حديثه عن ذكريات الأيام الأخيرة من حياته في فلسطين .. لدى زيارتنا له في مكان إقامته بمخيم حمص للاجئين الفلسطينيين .. و أضاف :
كنا قرويين ، و بدأنا نهيئ أنفسنا لمواجهة اليهود منذ عام 1947م ، لأننا أصحاب أرض و حق و لن نسمح لليهود أن يأخذوا أراضينا منا .. فكنّا نشتري الأسلحة من أموالنا الخاصة و نبيع كلّ ما نملك في سبيل شراء الأسلحة التي كانت مقتصرة على البنادق .. و كان ثمنها آنذاك باهظاً جداً ، لكن شعبنا الفلسطيني آنذاك كان غير منظم أو مهيأ ، و كان ينقصنا التنظيم بكلّ أشكاله حتى الشكل السياسي منه ، و رغم ذلك كانت القرى الفلسطينية تفزع و تهب لنصرة القرى الأخرى التي تتعرّض لهجوم من اليهود و البريطانيين ، و كان هذا شرف عظيم لكل الفلسطينيين .
المقاطعة الفلسطينية لليهود قبل النكبة :
لقد قمنا بواجبنا على أكمل وجه ، و لم نكن مقصّرين على الإطلاق في واجبنا الوطني . أما لماذا حصل معنا كلّ هذا و لماذا خرجنا ؟؟ فهذا أمرٌ خارج عن إرادتنا و سيطرتنا ، حيث انهالت علينا المؤامرات بدءًا من بريطانيا التي كانت منتدبة علينا آنذاك و كان وعد بلفور منطلقاً أساسياً لعملها ، و بدأت تعدّ لتنفيذه .. أما اليهود فأؤكد لكم أنهم لم يشتروا من الفلسطينيين أي قطعة من الأرض ، فالأراضي الفلسطينية التي سيطروا عليها ، حصلوا عليها من بقايا الاحتلال العثماني ، أما الفلسطينيون فلم يبيعوا أيّ شبرٍ لليهود ، بل على العكس فقد كان الشعب الفلسطيني آنذاك يطبّق سياسة مقاطعة اليهود في كلّ المجالات .. لا سيما في البيع و الشراء ، و كان «الكف الأسود» يقف في وجه كلّ من تسوّل له نفسه التعامل مع اليهود ، و هنا أودّ أن أسوق لكم حادثةً جرت مع صديقي "أبو تيسير" في طبريا ، فقد اشترى أبو تيسير (من قرية الشجرة) قميصاً من دكان في طبريا يملكه أحد أبناء قريته و دفع ثمنه جنيهاً فلسطينياً واحداً ، و بعد يومين و أثناء تجوّله في "طبيا" وجد القميص ذاته في واجهة دكان آخر و قد علق عليه سعر (نصف جنيه فلسطيني) ، تعجب أبو تيسير ، و دخل الدكان ليتأكّد من السعر فوجده صحيحاً ، عندها قرر شراء القميص ، و بعد أن دفع ثمنه و همّ بمغادرة الدكان قال له البائع بلهجةٍ غير التي حدّثه بها قبل شرائه القميص : « طول بالك خبيبي .. انتظر ..» عندها عرف أبو تيسير أن البائع يهودي ، و لكنه كان قد دفع الثمن و أخذ القميص ، فنظر إلى البائع فوجده ينظر من باب دكانه إلى الشارع يمنةً و يسرة ثم التفت البائع نحوه و قال : "أخرج الآن بسرعة ، لا يوجد أحد في الشارع" ... !!
لقد فعل البائع ذلك خوفاً أن يرى أحد الفلسطينيين أبو تيسير يخرج من الدكان اليهودي ، لأن الفلسطينيين كانوا يقاطعون اليهود و كانوا يعاقبون كلّ من يتعامل معهم من الفلسطينيين ... أما أبو تيسير فذهل لمعرفته أن البائع يهودي و حمد الله على سلامته من العقاب ..
و يتابع أبو خليل : "تصوّروا أن هذا على مستوى شراء قميص ، فما بالكم ببيع الأرض .. لقد كان ذلك مستحيلاً ، و أؤكد لكم أن اليهود لم يشتروا أرضاً من أيّ فلسطيني ، فالعقاب طال السماسرة أيضاً ، و كان (الكف الأسود) يقتل كلّ سمسار يسعى لإقناع الفلسطيني ببيع أرضه لليهودي .. لقد كنا مضرب المثل في الوطنية و لا نسمح لأحدٍ أن يزاود علينا أو أن يتهمنا ببيع أراضينا لليهود" .
نجدة القرى بعضها البعض :
لما هاجم اليهود الناصرة و القرى الصغيرة حوّلها ذات الاستعداد غير الكافي ، خرجنا في "باصٍ" كامل لنجدة الناصرة ، و كان هذا واجباً على أيّ قرية تعلم أن جارتها في خطر ..، و لما اقتربنا صرنا نلقي بأنفسنا من شبابيك "الباصات" بمعنوياتٍ عالية جداً للإسراع في الهجوم و المباغتة ، لكن للأسف كان اليهود قد أحكموا سيطرتهم عليها و على "صفوري" و احتلوا كلّ المناطق الاستراتيجية ، و تحصّنوا فيها ، فعدنا أدراجنا سيراً على الأقدام ، و أثناء عودتنا مررنا بعددٍ من القرى الفلسطينية فوجدنا بعضها خالٍ من أهلها ، و البعض الآخر يستعد أهلها للرحيل ، إذ سقطت الجهة الشرقية كلها بيد العصابات اليهودية . لذا و لما وصلت إلى بلدتنا لوبية طلبت من والدتي مغادرة البلدة و البقاء خارجها مع بقية النساء و الأطفال و الشيوخ ، أما نحن الشباب فبقينا في لوبية نقاتل اليهود .
معارك لوبية :
أساء أهل بلدتنا كثيراً لليهود ، و كان اليهود متحاملين جداً على أهل بلدنا ، و أقولها بكلّ فخر أن اليهود لم يخسروا معارك في فلسطين كما خسروا في لوبية .
المعركة الأولى : في أول معركة خرج "باصان" لليهود من مستعمرة الشجرة ، و مرّوا بالطريق الموازي لقريتنا ، فأمطرناهم بالرصاص على "الجنبين" ، و خسروا عدداً كبيراً من عناصرهم .
المعركة الثانية : أعدّوا لمقاتلتنا جيشاً بالآلاف ، حتى أنني تخيّلت أنهم لم يتركوا أيّ مسلح صهيوني في فلسطين إلاّ و أحضروه معهم ، فواجهناهم و اشتبكنا معهم بكلّ قوةٍ و صلابة و غنمنا منهم مصفحات و سيارات ، و ما زالت تلك الغنائم موجودة حتى هذه اللحظة في متحف سورية و مكتوب عليها «هدية من أهالي لوبية إلى فوزي القاوقجي» ، لكن جيش الإنقاذ لم يشارك معنا في المعارك نهائياً ، لم يكن لجيش الإنقاذ أي دور فعّال في قضيتنا ، و أنا أقولها بكلّ صراحة كان جيش الإنقاذ عبارة عن مؤامرة على قضيتنا بالتعاون مع من أسس لذلك من العرب ، لقد تعرّض شعبنا الفلسطيني لمؤامرتين من بريطانيا و من العرب .
المعركة الأخيرة : بعدها خضنا عدداً من المعارك ضد اليهود ، و كان آخرها المعركة التي طوّق اليهود فيها قريتنا من الشمال و الجنوب و شنوا ضدنا هجوماً مزدوجاً من الشمال و الجنوب بالمدافع و المصفحات ، أما نحن فلم يكن لدينا سوى البنادق .. و كانت تلك آخر معركة خضناها ، و اضطررنا نتيجتها إلى الانسحاب من قريتنا و الرحيل عنها .. إذ كانت القوة التي تحاربنا أكبر بكثير من الناحية العسكرية منا ، و معداتها أحدث و أكثر و متعدّدة .
معاناة اللجوء .. و انتزاع الحياة :
وصلنا إلى هنا بسبب التآمر البريطاني الذي وجد مناخاً مناسباً من قبل الدول العربية التي تعاونت معه ، إذ لم يفكّر جيش الإنقاذ بإنقاذنا أو القتال معنا و تحرير أرضنا و وطننا ، على العكس تماماً إذ سرعان ما اقتسمت الدول العربية أرضنا أمام أعيننا و حرمونا منها قبل أن يحرمنا اليهود منها .. و لم نقوَ على فعل شيء حيال ذلك .
قدمنا إلى سورية التي كانت مستقلة حديثاً ، و استقبلنا شعبها بكلّ كرم و إخاء و لم يقصّروا معنا على الإطلاق ، رغم فقر الغالبية منهم ، أما نحن فعشنا حياةً صعبة جداً ، سكنّا العرش (بيوت سقفها من قش و سعف ..) ، و سكنّا الشوادر و الخيام ، و ذقنا معاناة لم يعشْها أحد من قبل .. و كنا نذهب في الليل إلى مدرسة كانت الأنروا قد استأجرتها للتعليم نهاراً ، كي ندرس على ضوء اللمبة هناك ، إذ لم يكن في العرش و الخيام إنارة ..
بالنسبة لي عملت موظفاً إدارياً في وكالة الغوث عام 1954 ، و التحقت بالجامعة السورية و درست الحقوق ، و الحمد لله استطعت تعليم أولادي جميعهم ، و اليوم يعمل أحد أبنائي أستاذاً في إحدى الجامعات السورية و نال درجة الدكتوراه ، و ابن آخر حاصل على دبلوم في الفيزياء و الكيمياء ، و ابنتي حاصلة على دبلوم في الرياضيات .. و الحمد لله استطعت أن أؤسّس لهم ما يستندون إليه و يعينهم في حياتهم رغم كلّ ما عشته و قاسيته في الماضي ، و الحمد لله الشعب الفلسطيني الذي تشرّد و عانى اللجوء استطاع أن ينتزع الحياة من قلب المعاناة التي عاشها .
نواحٍ من المؤامرة البريطانية العربية :
و يشير العم أبو خليل إلى بعض نواحي المؤامرة التي حيكت على شعبنا الفلسطيني قائلاً : "كنا نقاتل عدداً محدوداً من اليهود في فلسطين قبل النكبة ، و لكن و بعد خروجنا القسري من فلسطين ، و للأسف الشديد فتحت الدول العربية حدودها أمام يهود و سمحت لهم بالرحيل إلى فلسطين ، و بالتالي ساهمت بشكلٍ كبير في زيادة أعدادهم في فلسطين و زادت من معاناة من بقيَ منّا في الوطن .. فدعموا اليهود و أضعفونا نحن .. و اليوم تستمر المؤامرة العالمية العربية علينا ، ففي آخر قمة عربية رفع أشقاؤنا العرب شعار الصلح و التطبيع مع الكيان الصهيوني فكانت قمتهم قمة استسلامية محضة ، لم يرَ فيها العدو غير ضعف العرب و استسلامهم الذي دفعهم إلى مثل هذا الشعار ، و بالتالي لم يعد يخشى أيّ شيء .. و زاد في ظلمه لشعبنا إذ تيقّن بعدم وجود أيّ دعمٍ عربي للشعب الفلسطيني" .
من جهةٍ ثانية استذكر أبو خليل حرب 1967م و عاد بذكرياته إلى الهزيمة العربية آنذاك : "كان قائد أركان الجيش الأردني آنذاك مشهور الحديثي ، و قال في مقابلة أجريت معه عام 67م ، (لقد قتلنا من الصهاينة 120 جندياً)، و لما سمعنا ما ذكره ، صرخ أحد أهالي الشجرة قائلاً : يكفيكم فخراً يا أهالي لوبية أنكم قتلتم من اليهود في معركة واحدة أكثر مما قتلت ثلاثة جيوش عربية في عام 67م" .
العودة بعد 55 عاماً :
في الواقع عندما أنظر إلى أهلنا في فلسطين أشعر بالتقدير و الفخر و الاعتزاز ، و أحمد الله أننا لا نزال واقفين على أقدامنا ثابتين في أرضنا ، في حين هناك دول عربية عديدة بجيوش غفيرة و كبيرة لم تستطع أن تقدّم ما قدّمه الشعب الفلسطيني ... الحمد لله أننا نرعب العدو الصهيوني بأقل الإمكانيات ، في حين لا يرى ذلك العدو العالم كله .. و لا يحسب له حساباً .
لقد أقرّت الأمم المتحدة بحقّنا في العودة إلى وطننا ، و نحن نحمد الله على أننا استطعنا الوقوف في وجه الفقر و الذل و الجهل و بقينا أقوياء متمسكين بحقوقنا جميعها و في مقدّمتها حقّنا في العودة إلى بلادنا و وطننا الذي لا نرضى أيّ بديلٍ عنه في العالم كله مهما كان .. و لا نرضى بعودة قسم و بقاء القسم الآخر خارج فلسطين ، إننا نريد عودة الكل إلى الكل، عودة جميع الفلسطينيين إلى جميع و كامل فلسطين .
[strike]