تقول الحاجة كاملة مفلح - من قرية عين غزال مواليد 1913م ، تسكن حالياً مخيم عين التل (حندرات) للاجئين الفلسطينيين في حلب :
كان والدي قاضياً ، لم يرزق بأطفالٍ إناث غيري ، و كان لديه أربعة أولاد كنت أوسطهم ، و كان ثرياً .. أما أمي فكانت وصفة في الجمال لا يوجد مثلها في كلّ فلسطين ، أما أنا فكنت أشبه والدي ، فمي صغير و عيني طفح و أنفي كبير ..
تبتسم و تضحك ثم تتابع :
سمّيت قريتنا عين غزال لاحتوائها على عين جارية تتدفق إليها المياه من جبل شرقي القرية ، و تتخذ العين شكل بركة واسعة محاطة بأحجار نقشت عليها رسومات جميلة ، و يتجاوز عمقها 1.5 متراً ، كان شباب قريتنا ينزلون فيها و يغسلوها من حين إلى آخر ، و كانت تردِها الغزلان لتشرب منها ، و تحيط بها أشجار الزيتون المتشبثة بتراب أرضها الأصفر .
الحج الأول من أرض فلسطين :
كانت الحجة الأولى الذي أقوم بها و زوجي عام 1947 ، ركبنا الحمير و البغال متوجّهين من قريتنا عين غزال إلى الميناء ، و خرج لوداعنا معظم أهالي القرية ، و بقينا مدة شهرين في البحر إلى أن وصلنا السويس ، و هناك ركبنا الباخرة التي أوصلتنا إلى جدة بعد ثلاثة أيام و لياليها ، و من جدة حملتنا السيارات إلى مكة المكرمة . و بعد إنهائنا لشعائر الحج عدنا إلى قريتنا من جديد .
الهجمات اليهودية على قريتنا
الهجوم الأول : في الهجوم الأول لليهود على قريتنا استشهدت امرأة فلسطينية واحدة من أهالي القرية و تراجع اليهود .
و في الهجوم الثاني : خطف اليهود مختار قريتنا خالد العبد الله و أخذوه من داره إلى وادي ماضي و قتلوه هناك .
الهجوم الثالث : أغلق شباب عين غزال الطريق الوحيد المؤدّي إلى قريتنا و المار من بين الجبلين المحيطين بها ، كي يمنعوا اليهود من النفاذ إلى القرية و طوّقوا القرية بحراسة محكمة ، في هذه الأثناء كان اليهود خارج قريتنا ، فأتوا لنا بطائرتين قصفتا القرية ، لا سيما الحاصل الواقع في منتصفها ، و الذي كان يرابط فيه 14 شاباً من شبابنا ، و كان الحاصل موجود أمام منزلنا الذي يتوسّط البلدة ، و رأيت الطائرة أمام عيني تقصف الشباب و «تنفضهم نفضاً» ثم ابتعدت الطائرة ، أما أنا فصرخت «يا نبي محمد .. يا الله ..» و انبطحت على بطني من شدة الضرب ، و كان ابني حمزة على يدي فوضعته على عتبة دارنا و اتجهت إلى الحاصل ، و بدأت أطفئ أجسادهم المشتعلة بالنيران ، و قلت لهم : «أنتم أخوتي بعهد الله و من يخونكم يخون الله ..» و لكن لم يردّ عليّ أحد إذ كانوا كلهم أمواتاً ، ففتشت ملابسهم علّي أجد فيها نقوداً أحملها لأسرهم و أطفالهم ، و لكني لم أجد شيئاً .
الخروج من القرية :
في هذا الوقت كانت قرى الوادي الغربي كلها قد سقطت بيد اليهود ، و لم يبقَ سوى قريتنا ، فطلب منا اليهود تسليم أنفسنا و قريتنا و الخروج منها مقابل سلامة أرواحنا ، فلم نقبل التسليم .
خرجت النسوة و الأطفال من القرية و جلسوا تحت أشجار الزيتون و بقيَ فيها الرجال و الشباب للدفاع عنها مرتكزين إلى قطعهم الطريق الوحيد المؤدّي إلى القرية ، و لكنهم فوجئوا بطائرتين تحومان فوق القرية و بدأت في قصفنا ، و لم يستطع الرجال مقاومة الطائرات بآلاتهم الخفيفة القديمة ، فخرجوا إلى الزيتون المحيط بالقرية ، و استمرت الطائرات تقصف القرية حتى ردمتها تماماً ، و لم تُبقِ على شيء فيها .
من أشجار الزيتون ذهبنا إلى عارة و عرعرة حيث بدأنا المسير بعد المغرب و وصلنا صباح اليوم التالي ، و هناك مكثنا قرابة الشهر ، و رغم فقر أهل عارة و عرعرة إلا أنهم تقلّونا و احتضنونا ، و أسكنوا كلّ عائلة منا عند عائلة منهم ، و منها انطلقنا إلى سورية ..
اللجوء في سورية :
في سورية حملتنا سيارات شحن إلى «قشة الترك» التي يرابط فيها مجموعة من العساكر ، و بعد ثلاثة أيام من مكوثنا فيها ، قسمونا على القرى المجاورة ، و كان نصيبنا قرية عزاز ، و في عزاز زارنا القائد الشيشكلي و تعرّف على زوجي الحاج خالد .. و عشنا في عزاز قرابة 6 سنوات ، و سجّلت أطفالي في مدارسها و تفوّقوا على كافة طلابها و طالباتها و الحمد لله . إذ حازت ابنتي آمنة على المرتبة الأولى بين الفتيات ، و نال ابني حمزة المرتبة الأولى بين زملائه الطلاب .
بعد عزاز انتقلنا إلى حلب في قرم الجبل و سكنّا منزلاً بالأجرة تابع لعائلة "فحلو" السورية ، و كنا كلّ 6 عائلات نسكن منزلاً كبيراً ، لقد احتضننا الشعب السوري و لم يقصّروا معنا أبداً ، حتى أن بعض العائلات استضافت عائلات فلسطينية منا ، بعدها وزّعت الدولة علينا الأراضي في هذا الجبل (جبل حندرات) إضافة إلى مبلغٍ من المال ، فحصلنا على قطعة من الأرض و بنينا منزلاً فوقها ، و كلفنا بناء المنزل آنذاك 25 ألف ليرة سورية (ما يعادل 500$) و كان ثمن كيس الإسمنت وقتها ليرتين سوريتين . كان الجبل مليئاً بالحجارة الكبيرة ، و خالٍ تماماً من النباتات و الأشجار ، في البداية تعبنا كثيراً في تعزيله و تنظيفه من الأحجار و في تسوية بعض المناطق فيه كي نتمكّن من البناء عليه .. و بعد فترة مدّت الدولة لنا مياه للشرب من نهر قويق القريب من الجبل (على بعد حوالي 3 كم) و أنشأت صنابير مياه مشتركة لأهالي المخيم ، و كنا نذهب لالتقاط العلك و الحمّيض و نبات العرقوب قرب النهر .. و بدأ وضع المخيم يتطوّر تدريجياً إلى أن وصلنا إلى هذه المرحلة ، فاليوم غطت الأشجار التي غرسناها منذ مجيئنا ظهر الجبل ، و استطعنا التغلب على صعوبة الوضع .
عملت في الماضي قابلة لتوليد النساء و كانت القرى المجاورة لنا أيضاً تطلبني لنسائها ، أما زوجي فعمل في بيع الإسمنت ، و بعد فترة أصبحت ابنتي معلمة و ابني حمزة أنهى دراسته و انتقل للعمل في الجزائر .
ما حملته الحاجة كاملة مفلح معها لدى خروجها الأخير من فلسطين
خرجت مع أطفالي السبعة أحمل بعض أواني المطبخ و هي :« طنجرة ، صينية كبة ، ملاعق ، إبريق زيت زيتون ، ..» كما اصطحبت معي حمار حملت عليه بعض الأغراض الأخرى خاصة اللحاف رغم أننا خرجنا في الصيف ، و أحضرت معي أيضاُ أوراق ملكيتنا لأراضينا و منزلنا في فلسطين . و كنت قبل فترة من خروجنا قد بعت بقرتين أملكهما ، و خبأت النقود في بيتنا ، و بعد مغادرتنا المنزل تذكرت النقود فعدت و حملتها في كيس علقته برقبتي و غادرنا .
أما ما بقيَ لديّ الآن بعد 55 عاماً من خروجنا من كل هذه الأغراض فهو : «طنجرة ، صينية كبة ، مصفاة ، مقلاة للعجة ، و صندوق أضع فيه ملابسي و أغراضي الخاصة».
سترجع فلسطين .. سترجع :
حول رغبتها في العودة و أملها فيها بعد كلّ هذه السنوات ، و رغم بلوغها العام التاسع و التسعين من عمرها تقول الحاجة كاملة : "الله أعلم بموعد العودة ، لكن العودة نفسها ستتحقّق ، سترجع فلسطين .. سترجع ، ليت العودة تكون اليوم لأذهب منذ الآن لفلسطين ، فقط ابعثوا معي من يحملني إليها ، لأرى حيفا .. عكا .. عين غزال .. و الله إني أحفظها كلها كلها" .
مواويل بلادنا ..
و لا تنسَ الحاجة كاملة أن تذكّرنا بتراثنا الشعبي و مواويلنا الشعبية الفلسطينية التي غنّاها أجدادنا على أرض الوطن ، فتردّد لنا بعض الأبيات من العتابا الفلسطينية التي قلما سمعناها باللهجة الفلسطينية المحكيّة :
بتذكر زماني إن كان ماضي
سيف الحق للتوّ سيف ماضي
أنا بقيت بدار العز ماضي
و نور سروجنا عنا انطفى ...
تسكت قليلاً ، ثم تشرح لنا قائلة : "يعني راحت فلسطين منا و انطفينا .."
لكنها تتمسك و تذكر بالأمل في العودة فتردّد :
شمالي يا هوا الديرة شمالي
عليّ بيته بيفتح شمالي
سألت الله والخضر الشمالي
من الغيّاب ما يقطع رجا ..
دروب الحبايب طير هدّا
خيول معدّدة من دون عدة
يا رب وقال ما بالعمر مدة
و عجّل باللقا يوم الحساب ..