( 1 )
جلست " أم سلمة " المخزومية وقد ضاقت بها الأرض بما رحبت ، فقد تزوجت مرتين قبل ذلك فمات كلاهما الواحد تلو الآخر ..
فقد تزوجت " أم سلمة " من عبد الله بن الوليد بن المغيرة، فمات، فتزوجت بعده من عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك الأموى فمات ..
وأشفقت على نفسها من مستقبلها المجهول.
فدخلت عليها جاريتُها فرأتها مهمومة ، فعلمت ما تحمله من هموم فقالت لها : علامَّ يا سيدتى تجلسين هكذا ؟!
قالت " أم سلمة " : إن الناس يرموننى بأبصارهم وكأننى أنا شؤم على من أتزوجه .
قالت الجارية : لا تجعلى هذا التفكير يسيطر عليك، فأنت شابة جميلة ، تزوجت من أسياد العرب قبل ذلك ، ولك من العز والجاه والمكانة ما لا يُنكر .
قالت " أم سلمة " : إن الرجال يفرون منى كأننى سببٌ فى قتلهم .
قالت الجارية : لو جعلت تفكيرك وذكائك فى التركيز على الحصول على زوج من سادات القوم وكبراءهم وأفضل من زوجيك السابقين لكان ذلك خيرٌ وأجدى .
وصوبت " أم سلمة " نظرها الى الجارية ...
وكان يدور فى خلدها شئ واحد ؛ كيف يخرج هذا الكلام العميق من هذه الجارية البسيطة ؟
وبينما المرأتان تتجاذبان أطراف الحديث ، إذ مر أمامهما رجلٌ جميلُ الطلعة ، وسيمُ الشكل ، مكتمل الصحة ، موفورُ الفتوة .
فسألت عنه " أم سلمة " وعرفته .
إنه أبو العباس عبد الله السفاح ..
وأصبح تفكير " أم سلمة " منصبٌ فى أمر واحد ، ألا وهو الزواج من هذا الرجل الوسيم .. السيد فى قومه .
فأخذت تتعرض له ، وأرته من نفسها ما يُرغب الرجالُ فى الزواج من النساء .. والحق أنها نجحت فى ذلك نجاحًا كبيرًا .
ولو لم يكن أبو العباس فقيرًا مدقعًا لتقدم فى الحال.
ولما علمت " أم سلمة " وأيقنت بذلك ، نادت على جاريتها وأرسلتها له تعرض عليه أن يتزوجها، وقالت لجاريتها : هذه سبعمائة دينار قدميها له إذا اشتكى الفاقة.
وكانت " أم سلمة " تمتلك المال الكثير من الحشم الجواهر وغير ذلك.
فأتته الجارية وعرضت عليه ذلك.
قال أبو العباس: أنا فقير مدقع لا مال عندى.
فدفعت الجارية إليه المال.
وما إن وصلت الأموال إلى يديه حتى أقبل إلى أخيها وطلب أن يزوجه منها. فزوجه إياها، فأصدقها خمسمائة دينار. وأهدى من يلوذ بها مائتى دينار .
وزُفَّت إليه فى ثياب موشاة بالجواهر ، وحظيت عنده حتى أصبح لا يقطع أمرًا إلا بمشورتها حتى أفضت الخلافة إليه .
(2)
آلت الخلافة إلى أبى العباس السفاح ، وكانت ظروفًا قاسية جدًا وشاركته " أم سلمة " تلك الظروف القاسية فلم تسقط الخلافة إلى أبى العباس سهلة أو عن أبيه الخليفة السابق ، بل وصلت إليه على أنهار من الدماء من أحباب وأعداء ..
والحق أن العباسيين قد خططوا كما لم يخطط أحدٌ قبلهم أو بعدهم، فقد كان كبيرهم يجلس فى منطقة بعيدة جدًا عن مواطن الصراع يتظاهر بالصلاح وموالاة الحكم الأموى ، مما جعل الخليفة الأموى يمنحه من الأموال والأراضى الكثير .
وقد أخذوا فى الدعوة إلى أنفسهم وفق برنامج غاية فى الدقة والعمق ، فجعلوا للدعوة مراكز ثلاثة:
* الحميمة : وفيها يقيم الإمام،
* والكوفة : وفيها يقيم نائبه الأول على العراق ،
* وخراسان : وفيها يقيم نائبه الثانى وأتباعه من الدعاة والنقباء. وكان الاتصال بين هذه المراكز مرتبا ترتيبا دقيقا ، إذ تخرج التوجيهات من الإمام فى الحميمة إلى نائبه فى الكوفة، ومنه إلى نائبه الثانى فى خراسان ،
ولكى لا يخفى على الإمام شىء من أخبار الدعوة وأسرارها فإنه كان يلتقى فى موسم الحج من كل عام بنائبيه فى العراق وخراسان والدعاة السبعين ونقبائهم الاثنى عشر، الذين كان ثمانية منهم من العرب وأربعة من الموالى.
تبقى المراحل التى عبرتها الدعوة حتى أتت أكلها وهى المرحلة السرية: وكانت أطولها فقد بدأت سنة مائة وانتهت سنة مائة وتسع وعشرين.
أما المراحل الخمس الأخرى هى:
1- الجهرية.
2- المواجهة المسلحة.
3- الفتح.
4- قيام الدولة.
5- الانتقام.
وما اكتُشف أمرُهم إلا بعد أن نضجت الثمرة . وقد استطاع الأمويون أن يقتلوا والد أبى العباس وهو إمامهم إبراهيم ، حيث قتلوه أبشع قتلة .
وتمخضت البلاد عن تغييرات كبيرة كان نتيجة ذلك تولى العباسيين الحكم ، وكان أولهُم الخليفةُ العباسى الأول أبو العباس السفاح ، الذى عُرف بحزمه وعزمه ، وكثرة بطشه وسفحه لدماء أعدائه حتى دانت له البلاد والعباد.
وكان أبو العباس من الخلفاء القلائل الذين اكتفوا بزوجة واحدة ، فقد اكتفى بـ" أم سلمة " عن العالمين وشغلته السياسة بأفراحها وأتراحها فلم يلتفت إلى عالم المرأة بما فيه ،
إلا فى شخص " أم سلمة ".
(3)
فلما كان ذات يوم فى خلافته ، خلا به خالدُ بن صفوان فقال له : يا أمير المؤمنين ، إنى فكرت فى أمرك وسعة ملكك ،
وقد ملكت نفسك امرأةٌ واحدة ، فإن مرضتْ مَرِضْتَ ، وإن غابت غاب الأُنس عنك ، وحَرَمْت نفسَك التلذذَ بظريفات الجوارى والتمتع بما يشُتهى منهن ،
فان منهن يا أمير المؤمنين الطويلة الغيداء ،
وإن منهن البضة البيضاء ،
والدقيقة السمراء ،
والبربرية العجزاء ،
ولكل منهن فتنة ومذاق .
وجعل خالد يطنب فى الوصف وكان إطنابه يزيد الموضوع حلاوة وطلاوة .
فلما فرغ من كلامه ، قال أبو العباس : ويحك يا خالد ! ما صكَّ مسامعى والله كلام أحسن مما سمعته منك ، فأعد على ّ كلامك ، فقد وقع منى موقعا . فأعاده عليه خالد أحسن مما ابتدأ .
ثم انصرف .
وبقى السفاح مفكرًا فيما سمع منه ، فدخلت عليه زوجته " أم سلمة "، فلما رأته مفكرا مغتما ..
نظرت إليه نظرة الخبير بما يملك ،
ثم قالت : إنى لأنكرك يا أمير المؤمنين ، فهل أمر تكرهه أو أتاك خبر فارتعتَ له ؟
قال : لم يكن من ذلك شئ ،
قالت : فما قصتك ؟
فجعل ينزوى عنها ، فلم تزل به حتى أخبرها بحديث خالد ،
فقالت : فما قلت لابن الفاعلة ؟
قال لها سبحان الله ! ينصحنى وتشتمينه ؟
وخَرجَتْ من عنده مغضبةٍ ، وأرسلت إلى خالد جماعة من الرجال الأقوياء وأمرتهم ألا يتركوا فيه عضوا صحيحاً ...
(4)
قال خالد يحكى ما حدث له : انصرفت إلى منـزلى وأنا على السرور بما رأيت من سرور أمير المؤمنين وإعجابه بما ألقيت إليه .
ولم أشكَّ أن صلته ستأتينى .
فلم ألبث حتى وصل إلىَّ أولئك الرجال وأنا قاعد على باب دارى، فلما رأيتهم قد أقبلوا نحوى ، أيقنت بالجائزة والصلة ،
حتى وقفوا وبيد كل واحد منهم هراوةٍ ، أهوى بها علىَّ فوثبتُ فدخلت منـزلى وأغلقتُ البابَ علىَّ واستترت .
ومكثتُ أيامًا على هذه الحال لا أخرج من منزلي ،
ووقع فى خلدى أنى أُتيِتُ من قبل " أم سلمة " ،
وطلبنى السفاحُ طلبًا شديدًا ، ولم أشعرْ ذات يومٍ إلا بقومٍ هجموا علىَّ .
وقالوا : أجب أمير المؤمنين .
فأيقنت بالموت ، فركبتُ وليس على لحم ولا دم .
(5)
فلما وصلت إلى الخليفة أَوْمَأَ إلىَّ بالجلوس ، ونظرت فإذا خلف ظهرى باب عليه ستور قد أرخيت ، وأحسستُ حركةً خلف الستور ،
فقال : يا خالد ! لم أرك منذ ثلاث .
قلت : كنتُ عليلاً يا أمير المؤمنين .
قال : ويحك، إنك وصفتَ لى فى آخر دخلة من أمر النساء والجوارى ما لم يخرق مسامعى قط كلام أحسن منه ، فأَََعِدْهُ علىَّ.
قلت : نعم يا أمير المؤمنين ، أعلمتُك أن العربَ أشتقَّت اسم الضُّرَّة من المضرِّ ، وأن أحدهم ما تزوج من النساء أكثر من واحدة إلا كان فى جهد ،
فقال : ويحك ! لم يكن هذا فى الحديث ؟
قلت : بلى والله يا أمير المؤمنين ، وأخبرتك أن الثلاث من النساء كأنهن القِدر يغلى .
قال أبو العباس :برئتُ من قرابتى من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت سمعتُ هذا فى حديثك .
قال : وأخبرتُك أن الأربع من النساء شرٌ دائمٌ لصاحبهن ، يُشَيِّبْنَه ويُهرِمْنَه ويُسْقِمنه .
قال : ويلك ؟ ما سمعت هذا الكلام منك ولا من غيرك قبل هذا الوقت .
قال خالد : بلى والله ،
قال : ويلك ! وتكذِّبنى ؟
قال خالد: قلت هامسًا : وتريد أن تقتلنى يا أمير المؤمنين ؟
قال الخليفة : مُرَّ فى حديثك ،
قال : وأخبرتك أن أبكار الجوارى رجال ، ولكن لا خصى لهنَّ ، قال خالد : فسمعت الضحك من وراء الستر ،
فقلت : نعم
وأخبرتك أيضا أن بنى مخزوم ريحانة قريش ،
وعندك ريحانة من الرياحين ،
وأنت تطمح بعينك إلى حرائرِ النساء وغيرهن من الإماء.
قال خالد : فقيل لى من وراء الستر : صدقت والله يا عماه وبررت، بهذا حدثت أمير المؤمنين ،
ولكنه بدل وغير ونطق عن لسانك .
فقال أبو العباس : مالك قاتلك الله وأخزاك وفعل بك وفعل !
(6)
رجع خالد إلى بيته وما صدق أنه نجا مما حدث معه ..
يقول خالد : تركت الخليفة وخرجت من عنده ، وقد أيقنت بالحياة .
فما شعرتُ إلا برسلِ " أم سلمة " قد ساروا إلىَّ ومعهم عشرة آلاف درهم وتخت وبرذون وغلام .
وشاعت هذه القصة فى مملكة أبى العباس السفاح ، فكانوا يعرفون أن أبا العباس غلب الجميع وغلبته امرأة.