السلام عليكم
نتابع الجزء الأول السابق
من أفلامه :
في باريس كتب دالي إلى جانب "بونيويل" سيناريو فيلم " كلب أندلسي" ويبلغ طوله 17 دقيقة وهو مزيج حلمي غريب ،والمشاهد والأفكار لا يمكنها أن تثير تفسيراً عقلانياً من أي نوع : شفرة موسى تفقأ عين فتاة والمعنى ربما "فقؤ" كل ما هو تقليدي وسائد ، رجل ينزع فمه من وجهه ، بيانو تزينه جثث حمير ، نمل يزحف على يد رجل ، واحد في الشارع يحمل مكنسة تنتهي إلى يد آدمية يدفع بها الفضلات.. ومن الطريف أنه لايوجد في الفيلم أي كلب أو أندلس ..
سرياليته :
وفي باريس أيضاً تعرّف على الشاعر والطبيب النفسي "أندريه بريتون"(1896 ـ 1966) الذي كان قد نظم في عام 1924 "البيان الأول" الذي يعتبر بمثابة الرسالة التأسيسية للسريالية .
وكان دالي يتحول تدريجياً إلى راية ودليل للسريالية ..ومصطلح السريالية surrealism وضعه عام 1917 الشاعر "غويوم أبولينير" وهو مؤلف من كلمتين : sur وتعني ما فوق، و realism وتعني الواقعية . أي ما فوق الواقعية وهو مذهب أدبي فني فكري أراد أن يتحلل من واقع الحياة الواعية ، وزعم أن فوق هذا الواقع واقع آخر أقوى فاعلية وأعظم اتساعاً، وهو واقع اللاوعي أو اللاشعور ، وهو واقع مكبوت في داخل النفس البشرية ، ويجب تحريره وإطلاق مكبوته وتسجيله في الأدب والفن. وتسعى السيريالية إلى إدخال مضامين غير مستقاة من الواقع التقليدي في الأعمال الأدبية. وهذه المضامين تستمد من الأحلام سواء في اليقظة أو المنام ، ومن تداعي الخواطر الذي لا يخضع لمنطق السبب والنتيجة ، وهكذا تعتبر السريالية اتجاهاً يهدف إلى إبراز التناقض في حياتنا أكثر من اهتمامه بالتأليف.
وقد اعتمد فنانو السيريالية على نظريات فرويد رائد التحليل النفسي خاصة فيما يتعلق بتفسير الأحلام. كما وصف النقاد اللوحات السيريالية بأنها تلقائية فنية ونفسية تعتمد على التعبير بالألوان عن الأفكار اللاشعورية والإيمان بالقدرة الهائلة للأحلام .
وقد تخلصت السيريالية من مبادئ الرسم التقليدية وذلك بواسطة التركيبات الغربية لأجسام غير مترابطة ببعضها البعض ، كما إن الانفعالات تظهر ما خلف الحقيقة البصرية الظاهرة . واعتمد السيرياليون في تصويرهم على طريقتين ،الأولى : هي الأسلوب الذي ابتكره "سلفادور دالي" ويعتمد على التجسيم الواقعي أو "الهذيان الناقد" والذي يستخدم فيه رموز الأحلام ليرتفع بالأشكال الطبيعية إلى ما فوق الواقع المرئي ، لكن مع التجسيم الطبيعي لها . والثانية : تشبه الأسلوب التكعيبي المسطح ذا البعدين ، وهي أقرب إلى الأشكال التجريدية ، وإن كانت تختلف عنها في أن السيريالية لاتهتم بالشكل ولا بالصور ولا بالهندسة ، الأمر الذي يهتم به التجريديون .
وبعد حقبة الثلاثينات توجه دالي إلى نيويورك حيث كانت شهرته قد ذاعت وكثر المعجبون بفنه. ولم يتأخر في اكتشاف عالم الأغنياء والأرستقراطيين في المدينة ، ويقول في ذلك:"لقد كانت الشيكات تنهمر كالإسهال ".
وقد لجأ دالي إلى أساليب ملتوية لتحقيق الشهرة العالمية كتأييده لحكم "فرانكو" في إسبانيا ، وخلال فترة صعود الحزب النازي إلى الحكم في ألمانيا رسم دالي العديد من اللوحات التي تظهر "هتلر" في أوضاع عجيبة- بعضها أنثوي- ويقال أن "هتلر" أعجب ببعض هذه اللوحات ، مما دفع "بريتون" والفنانين السرياليين إلى إتخاذ قرار جماعي بفصله من الحركة السيريالية بسبب ذلك إضافة لاتهامه بالولع الشديد بالمال ، وما لبث أن ألف "بريتون" من حروف اسم دالي كلمة " avida Dollars " أي جشع الدولارات. غير أن دالي لم يتأخر في الرد حيث قال له : ليس بإمكانك طردي ، فالسريالية هي أنا!!
تحولاته الأخيرة :
عاش سلفادور دالي في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1940 إلى 1948، وهناك قام بتصميم العديد من الواجهات الشهيرة ، ومجموعات الحلي ، والملابس ، وخشبات المسارح ، بل واتفق مع المخرج والت ديزني على مشروع فيلم "ديستينو " ولم يتم إنجاز ذلك إلا مؤخراً عام 2003.
وفي عام 1948 عاد الفنان دالي إلى "فيغويراس" وبيته ، وكانت عودته هذه المرة عودة الابن البار حيث تصالح مع والده بعد فترة قطيعة طويلة.
وانطلاقاً من إعجابه المعلن بالرسامين الكلاسيكيين أمثال "فيلاسكيس" و"رافائيل" و"فيرمير" انطلق نحو ما سماه " الفن الكلاسيكي الديني" ورسم بعدها " مادونا بورت ليجات" وهي عبارة عن عذراء بوجه جالا ، ثم مسيح "سان خوان دي لاكروس".
بين عام 1937 و 1939 قام دالي بثلاث رحلات إلى إيطاليا وقد وجد روما الكاثوليكية وقد دمرتها التجديدات الحديثة التي أمر "موسوليني " بها .وتطلب ميله الجديد للكلاسيكية موضوعية أكثر ودراسة لفنون الرسم في عصر النهضة ، فاهتم بقوة بالهندسة والرياضيات وعلم التشريح والمنظور قدر اهتمامه القديم بالإيحاء من اللاوعي . في نفس الوقت طور دالي إيماناً متزايداً بالمراتب الكهنوتية الكاثوليكية وبالنظم الملكية ، وقد طلب في أحد الأيام الحصول على موافقة البابا لرسم إحدى لوحاته كما أعلن بوضوح أن آماله في المستقبل هي الدعوة إلى نهضة دينية جديدة على أساس مبادي كاثوليكية متطورة.
قبالة شواطئ البحر الأبيض المتوسط قضى دالي بقية أيام حياته ، وظل هناك لما بعد وفاة زوجته عام 1982.وفي عام 1984 احترق دالي في غرفته ضمن ظروف مريبة ربما كانت محاولة انتحار ، لكنه لم يمت وعاش خمس سنوات تالية ، ثم صدرت عنه لفتة كريمة جداً قبل أن يموت ، فقد أهدى كل ثروته ولوحاته للدولة الإسبانية .
بعد ذلك أخذ دالي يذوي رويداً رويداً ، وأخذ ذلك الاستفزازي الذي كان يواجه الموت يحتضر تدريجياً حيث كانت أنابيب الأوكسجين ترافقه ليل نهار إلى أن توفي عام 1989 .
لقد ودعنا دالي تاركاً إشارة استفهام ضخمة حول حجم الإرث الذي خلّفه على هامش القائمة الكبيرة من الفضائح التي أصبحت حسب قوله تشكل جزء من التراث الشعبي. ويقول النقاد بأنه ليس بإمكان أحد أن ينكر ملكة الرسم الخارقة التي كان يتمتع بها دالي ، أو أن يتجاهل قيمة لوحاته العظيمة وخصوصاً في مرحلة السريالية الأولية ، أما المرحلة التي تحول فيها إلى "رجل أعمال" فيرى الكثيرون بأنها أثرت على طبيعة فنه وعلى نزاهة وعفة أعماله.
وعلى هامش ما قيل وما سيقال فإن ذلك الفنان العظيم ذو النظرة الجنونية العميقة ، والشاربين الصلبين المعقوفين ، والذي تمكن من إلغاء الحدود بين الروح المشاكسة الهائجة والاستعراضية الفاضحة ، قد تحوّل دون شك إلى "أسطورة " . ومع كل نظرة إلى لوحاته العظيمة تشعر الروح بأنها اكتسبت جناحين ، وتحتفل المخيلة بولادة وانطلاقة جديدة ..
في متحفه :
في مسقط رأسه وبعد أن أصبح شهيراً وثرياً قرر دالي أن ينشئ متحفاً خاصاً به وبأعماله ..المكان المُختار عبارة عن قصر قديم يقع في القسم القديم من المدينة ويتألف من عدة طوابق تطل شرفاتها على حديقة داخلية.
وفي الحديقة ووسط الأشجار هناك نافورات ماء غريبة الأشكال. واحدة من النافورات عبارة عن سيارة قديمة في وسط الحديقة مكتوب عليها عبارة: "اضغط هنا" فإذا وقع المرء في الفخ الذي نصبه له دالي وضغط على الزر الصغير فسوف يندفع الماء ليغسل وجهه . وهذه واحدة من مداعبات دالي لزوار متحفه.
بعد ذلك تصعد إلى الطابق الأول حيث جمع دالي بعض لوحاته الكبيرة. تدخل هناك في عالم حافل بالجمال والغرابة وبكل ما هو غير متوقع . إنه عالم دالي : لوحات تمثل جالا المرأة التي شاركت دالي حياته ،لوحات طبيعة صامتة ، ورسوم أخرى.
الإيحاءات الغريبة التي تخلفها رسوم دالي في النفس تجعلك خارج الزمان والمكان . تتابع الزيارة في الأرجاء وترى المنحوتات والأشياء والتكوينات السريالية التي صنعها دالي وهي لا تقل غرابة وجمالاً عن لوحاته ، ويكاد يخيل إليك أنها كائنات حية تنظر إليك وتخاطبك..ويذكر " فرويد" أنه لم يأخذ على محمل الجد اعتباره من قبل السرياليين كأب لحركتهم حتى التقى بذلك الشاب الإسباني دالي 1938 والذي جعله بتقنياته الفنية العالية يعيد النظر في أحكامه السلبية على الحركة السوريالية .
في الطابق الثاني من المتحف رتّب دالي أشياءه الخاصة . صندوق نحاسي على الأرض لمسح الأحذية ذهبي اللون يعود إلى العهد العثماني ، أضاف إليه دالي بعض اللمسات الفنية فحوله إلى قطعة فنية مسكونة بالغرابة.
في الواجهات الزجاجية تستطيع أن ترى الطبعات الأصلية والأولى من كتب دالي "حياتي السرية" والكتب الأخرى. ثم الكتب الشعرية التي صمم دالي أغلفتها بنفسه وزينها برسوماته ، بالإضافة إلى ذلك تجد رسائله إلى أصدقائه ورسائل أصدقائه إليه ثم عشرات الصور الشخصية التي تعود لسنوات قديمة وفيها يبدو دالي مع أصدقائه من شعراء وكتّاب ورسامين صنعوا أدب وفن القرن العشرين ، أسماء هي اليوم شهيرة وطوى الموت أصحابها.
عند نهاية الزيارة وفي القاعة الأرضية وقبل أن تغادر المكان ثمة مفاجأة سريالية أخرى بانتظارك هناك ، قبر دالي نفسه كما قام بتصميمه هو قبل موته ، قبر رخامي ضخم يرقد فيه اليوم بجانب زوجته.
حيثما يوجد دالي فلا مكان للضجر . إن الداخل الى متحف سلفادور دالي في حي مونمارتر في باريس، مفقود وهارب إلى دفء الفن والذوق المختلف ، والخارج منه مولود ولادة مغايرة كالعائد من رحلة جمالية ضرورية للروح ومنشطة للحواس.
من كتبه :
في عام 1964، أصدر سلفادور دالي كتاباً بعنوان "يوميات عبقري" في باريس، وهو مأخوذ من دفتر يوميات يغطّي المرحلة الممتدة من عام 1953 إلى عام 1963 من حياته. ويُشكّل الكتاب تكملة لسيرته الذاتية التي صدرت بعنوان "حياة سلفادور دالي السرّية".
نتعرف في هذا الكتاب الذي يحتوي على 300 صفحة،على أفكار دالي وشواغله كفنانٍ وظروف لقاءاته مع أبرز شخصيات عصره ومواقفه الجمالية والأخلاقية والفلسفية والبيولوجية ، الأمر الذي يمكّننا من فهم شخصيته المثيرة والمعقّدة ومن التعمّق في منهج عمله الفني الذي أطلق عليه اسم "الذهان التأويلي النقدي" ، وبالتالي يمكننا من تحديد طبيعة عبقريته التي سعى طوال حياته إلى إبرازها وإلى الترويج لها.
من أبرز الموضوعات التي يتناولها في هذا الكتاب: إلحاده في بداية مساره النابع من قراءته للكتب التي كانت موجودة في مكتبة أبيه، سرّياليته التي لم تكن تعرف أي إكراهٍ جمالي أو أخلاقي، نزعة التفوّق لديه التي استمدّها من كتب نيتشه ، حبّه المفرط لزوجته جالا، تفضيله التقليد على الحداثة والنظام الملكي على الديموقراطية ، والصوفية على المادية الجدلية، احترامه الكبير لأندريه بروتون ونشاطه الفكري وقيمه بالرغم من موقف هذا الأخير السلبي منه بعد عام 1934، كذلك نتعرف على احتقاره أرباب الوجودية ونجاحاتهم المسرحية والمرحلية، ولعه بالرسام رافاييل، "الجانب الفينيقي" من دمه على حد قوله و الذي جعله يحب الفيلسوف" أوغست كونت" الذي وضع المصرفيين في المرتبة الأولى من المجتمع .
وسنتعرف في يوميات "دالي" على حبه اللامحدود لزوجته جالا التي يعتبرها المحرك الأساسي له، والتي لولاها لما ظهرت عبقريته ولما استمرت. عنها يقول في المقدمة: "هذا كتاب فريد، هو أول كتاب يكتبه عبقري، كان حظه الفريد أن يتزوج من "جالا" المرأة الأسطورية الفريدة في عصرنا". وحينما بدأ يرسم لوحته الشهيرة "صعود العذراء" التي يمثل فيها السيدة العذراء وهي ترتفع إلى السماء، اختار وجه "جالا" ليكون وجه العذراء.
وعادات "دالي" شديدة الغرابة ، فبالنسبة للنوم يقول: "الناس عادة تتناول الحبوب المنومة حين يستعصي عليها النوم، لكني أفعل العكس تمامًا، ففي الفترات التي يكون فيها نومي في أقصى درجات انتظامه وروعته، فإني بتصميم أقرر أن أتناول حبة منوم، وبصدق وبدون ذرة استعارة، فإني أنام كلوح الخشب، وأستيقظ مستعيدًا شبابي ثانية". ومن مكان لآخر يعطينا "دالي" تقريرًا شبه يومي عن عمليته الإخراجية وكيف أنها تتم بسلاسة ونظافة، ويتكلم بحيرة عن عدم فهمه لإهمال المفكرين والفلاسفة لهذه العملية رغم أهميتها للإنسان..
وعشق "دالي" للذباب لا يوجد ما يبرره، فقد قال ذات مرة : يعجبني الذباب ولا أكون سعيدًا إلا حين أكون عاريًا في الشمس والذباب يغطيني.وفي موقف آخر يفاجأ بالصحفيين يحيطون به ويتذكر أنه كان قد وعد بتقديم تصميم جديد لزجاجة عطر، وأعد مؤتمرًا صحفياً لذلك ، وبعد أن تسلم الشيك من صانع العطور، وسأله الصحفيون عن التصميم الجديد، فوجئ بأنه نسي كل شيء عنه ، فاتّبع أول ما ورد على ذهنه لينجو من هذا الموقف ، تناول لمبة فلاش محترقة من أحد الصحفيين ورفعها قائلاً : إن هذا هو تصميمه الجديد، وأطلق عليه اسم "فلاش"، وهتف الصحفيون وهللوا ومعهم صانع العطور!!
يـــــــــــتــــــــــبـــــــــــع