الدجاجة الذهبيَّة
الساعة تقترب من التاسعة صباحاً، وقد خلع المكان ثوب الضجيج، ومازِلتُ أنتظر سيارة العمل، وفجأةً دق بابَ انتظاري صوت ارتطام دراجة هوائية بالأرض، عند تقاطع الشارع الإسفلتي اليتيم مع الممر الترابي في حيّنا الأثري.
تأكدت أن الرجل سالم، عندما نهض بسرعة، وراح يطرد من ثيابه الغبار، ويجول بنظره إلى حبَّات الأرز المبعثرة، التي تمرَّدت عن الوصول للأفواه الجائعة، وأخذت تتلألأ تحت أشعة شمس آب اللاهبة.
وشرع الرجل يلمُّ حَبَّ الأرز بيدين مرتعشتين، وما هي إلا لحظات حتى استنفر في المكان إمرأة وبعض الأطفال كانت ملامحهم توحي بأنهم عائلته.
وبدأوا يلقون القبض بأناملهم الصغيرة على حَبِّ الأرز متلبساً بمعانقة التراب، الذي غاصت به الأرجل حافية القدمين.
-
همس الأب في أذن أحد الأولاد، لم أفهم كلامه رغم المسافة القليلة التي تفصلني عنهم، قفز الولد من الساحة، وعاد بعد برهة كالبهلوان، وفي يده كيساً من الخيش.
تناولته الأم بعصبية، وكساحر قلبت الكيس، فخرجت منه ثلاث دجاجاتٍ، وبدأن يلتهمن حب الأرز بتهذيب وكأنهن يعرفن مهمتهن.
توسَّدتُ مايجري ولم أتحرك قيد أنملة، وأنا أرنو لبقية الحبِّ الذي أفلت من الأظافر الناعمة وكاد الستار أن يُسدَل، لولا دجاجة مسرعة تطفَّلت على المائدة، وأخذت تنقر الحب بمنقارٍ مغناطيسي.
حاول الرجل إبعادها وقد بدا قميصه الممزق من تحت إبطيه، ولكن عبثاً، أمسك بحصى رماها نحوها بعفوية ، فأصابها في مقتل، فنامت في الهدوء الأخير.
ولج الجميع الصمت إلا دجاجات الرجل…
لسانٌ أنثوي يصرخ ويقترب، يُفرِّغُ حمولته من الشَّتائم ذات الوزن الثقيل قتلوها أولاد…
اعتلت السيدة مصطبة الرصيف كالطاووس بعيونها الجاحظة وشعرها الأجعد الفحمي، وسط وجهاء الحي الذين هبطوا المكان وأحاطوا بها كالظِّل.
وأخذت تُلوِّح بالدَّجاجة القتيلة، وكأنها وسيلة إيضاح، تشرح مزاياها الفنية والتعبوية كأستاذ العلوم.
-دجاجتي ذهبيَّة هي من وزن الديك…
ويأتي الصَّدى من كبير الوجهاء: طبعاً … نعم … هذا صحيح…
والبقية يومئون برؤوسهم موافقين وكأنهم حُقِنوا جرعة ولاءٍ على الفور.
قالت السيدة بصوت متعجرف وقد ملأ الحزم تجاعيد وجهها الستيني، وهي تشير بيدها النحيلة إلى دجاجتها الميتة:
ألا ترى أيها الأحمق الخرزة الزرقاء التي تُسوِّر عنقها لتحميها من جيش الحسد الذي كان يلاحقها، هذه عملية اغتيال واضحة في وضح النهار عن سبق الإصرار والترصد أريد ديَّة الدجاجة.
-ومن أين ليَ المال.
-من لا يملك مالاً يأكل برغلاً بل شعيراً، ولا يأكل أرزاً من نوع الحب القصير.
وأخذ الرجال يتناوبون على منبر الرثاء، فوقف المختار محاولاً التكلم بالفصحى، فكسر الفتحة وفتح الضمة، وتناول عنه الحديث شاعر الحي فأنشد شعراً شطره الأول موزوناً، وشطره الآخر موزوناً على بحره الخاص ، وقاطعه فيلسوف الحي بكلمات شبه مفهومة فهو خبير من ألف الذرة إلى ياء سيخ الكباب.
بعدها تدخَّل كبير الوجهاء مُتصنِّعاً الوقار:
الدجاجة الراحلة عزيزة عليها وعلينا ورحيلُها يُؤرِّقُها ويُؤرِّقُنا، ونيران الأذى المادي والمعنوي للسيدة الوقور تضطرم، وستمتد إذا لم تُطفَأ بماء الجيوب، وقد اختزلت السيدة المحترمة نسل طلبات بالديَّة.
رنت هذه العبارات كجرس الإنذار في مسمع الرجل ، فبدت عيناه كجمرتين تحتضران، وبلمح البصر طارت النقود من جيبه إلى حقيبة السيدة.
تقدمت السيدة قليلاً واثقة الخطى ، ولم تنسَ أن تشكر الرجل، فأمسكت بدجاجاته وكأن خيطاً سحرياً ربطهن بيدها، وبخفة إفعوانية خطفت من يد الزوجة كيس الأرز الملموم وهي تقول:
إنه مجرد مقبلات لهن .
تفرق وتاه الجميع في متاعب ذلك النهار ، وسرت نحو منزلي وقد تبخرت لقمة عيشي وسقطت زخَّات من التمتمات …
دجاجة الديك ديك ؟
ا