ناجي العــلي.. شيء مــن الذكــريات
بعد مسار صعب وطويل تجاذب بين الخيارات المتشعبة حطت رحالي في الكويت نهاية العام ,1964 وسكنت اوجاع النفس قليلاً باستقبال ذلك النفر الطيب من اهلها الذين غمروني بأحاسيسهم الصادقة، ووجدتني اعامل كواحد منهم وان اختلفت معهم في تفسير الكثير من المواقف والامور.
هكذا دخلت في هذا الشتاء عالم مجلة ‘’الطليعة’’ الكويتية التي أمدتني بقوة دفع جديدة وأدخلتني عالماً جديداً على رغم الفترة الزمنية القصيرة. تلك الشقة الصغيرة في احد ادوار بناية مطلة على حديقة ساحة الصفاة. عالماً يضم في جنباته الكثير من الشخصيات الثقافية من كتاب وشعراء وفنانين ممن يترددون على مقر المجلة. وخصوصاً في المساء، الامر الذي يحولها الى لقاءات ثقافية أدبية نادرة تضفي عليها شخصية سامي المنيس الودودة والجامعة حيوية لا توصف، فقد كان رحمه الله، إضافة الى ادواره السياسة والعمالية، بمثابة الدينامو لأي تجمع أو لقاء. فهو قريب من المحيطين به يحيطهم على الدوام بتواضعه وحميميته ومشاركته أحاسيسهم وتطلعاتهم وهمومهم.
ويضم هذا العالم الفريد في جنباته فنانين اخذت في التعرف عليهم شيئاً فشيئاً. أحدهم دائب الحضور، تصب عنده جميع المواد. انه الفنان التشيكلي الصديق عدنان شرارة الذي كان يتولى الاشراف على التحرير ويسهم في ارساء الشكل النهائي للماكيت. اما الآخر فإنه يكاد يظهر في الصورة وتختلف مواعيد حضوره ليقبع جل وقته خلف طاولة الرسم الكبيرة التي لا تترك إلا القليل من الفراغ في الحجرة التي لا يغادرها إلا بعد ان تهدأ الحركة في المكان، ويستغرق الجميع في حياتهم العادية.. إن اشد ما كان يدهشني هو قدرة هذا الجسم النحيل على العمل التي تثير الاستغراب من الطاقة الكامنة بداخله.. انه ناجي العلي.
كانت رسوماته الكاريكاتيرية غالباً ما تثير الاشكالات والزوابع حيث اشتهر بشخصيات عدة من ابرزها شخصية ‘’المتسلل’’ تلك الشخصية التي يجسد فيها ناجي الخطر الذي كان يتهدد في ظروف الستينات من القرن الماضي شخصية المنطقة وعروبتها ولا يخفى على من كان يتابعها ذلك البعد الذي يتجاوز تلك الشخصية او ذلك الفرد البائس الى الذين يقفون وراءه ويستفيدون منه في الداخل أو من وراء الحدود. كما صور بريشته شخصيات محلية ظريفة جسدت حينها الصراع الدائر بين ما كان يسمى بتيار الموالين وتيار المعارضين، ناهيك عن البعد القومي والعروبي عموما. وقد كانت لرسومات ناجي شعبية اضفت على ‘’الطليعة’’ ثقلاً اضافياً.
وعلى رغم عروبة ناجي العلي العفوية والعميقة في الوقت نفسه ومن تعاطفه مع جميع القضايا الوطنية، وقضايا المظلومين في كل مكان، وتفاؤله بمستقبلهم إلا ان ألماً عميقاً يقبع في اعماقه كان يعكس نفسه في التذمر والشكوى المرة لظواهر ذلك المخاض الطويل الذي كانت تمر به القضية القومية عموماً وقضية فلسطين خصوصاً. وكفلسطيني وقومي عربي فإن حسه المرهف كان يجعله في حال من التمزق الدائم بين الآمال المعقودة على الجهد القومي وبين الاهتمام بالجهد الخاص للفلسطينيين والانصراف للاهتمام بقضيتهم.. وقد اخذ هذا الاحساس يقوده فيما بعد الى التقاط كل المظاهر السلبية التي رافقت انطلاق العمل الفلسطيني بعد .1976 واشهر ما كان يؤرقه الاتجار بالقضية، بروز زعامات أبعد ما تكون عن الاحساس بالفلسطيني البائس الذي هو مرتبط بهمومه وقضاياه وكذلك مظاهر التسلق والوصولية. الامر الذي جعله شديد الحساسية تجاه الزعامات و’’الابواب’’ كما كان يسميهم. الامر الذي حفلت به رسوماته التي تلت تلك الحقبة والتي ربما قادته في النهاية الى منطقة الألغام التي لم يفلح في الخروج منها حياً.
حمل ناجي العلي معه اينما حل عذابات المخيمات وفلسطيني الشتات.
ان احلى الذكريات التي تمر دوما على البال عن ناجي العلي هي تلك المرتبطة بساعات العمل المرهق المكثف في اليومين الاخيرين اللذين يسبقان صدور العدد الجديد من (الطليعة) والتي تتركز خصوصا في فترة ما بعد ظهر يوم الثلثاء وصباح الاربعاء حيث يتولى هو استلام المادة وتنقيحات الماكيت المحتمل لينطلق الى مطبعة المقهوى قبل ان ألحق به فيما بعد، ذلك ان العمل كان يقتضي ان احضر جلسة مجلس الامة ليوم الثلثاء كي اختم بها التقرير الاسبوعي لاعمال مجلس الامة، ذلك ان هذه الجلسات غالبا ما كانت تمتد حتى ساعات متأخرة من بعد ظهر ذلك اليوم، وتكون حافلة بالقضايا الخلافية المتفجرة. وبانتظار ان افرغ من الصياغة النهائية للتقرير، يتولى ناجي متابعة الطباعة لحين اللحاق به لاستكمال التصحيح المطبعي وسد فجوات من الاخبار المستجدة السريعة. ولاتكاد عملية التدقيق على الاخراج والطباعة تنتهي ومن ثم ننتهي من التوقيع على البروفة النهائية حتى يكون الصباح قد اوشك على الانبلاج، فننطلق الى حيث يقيم كل منا لنعاود اللقاء على خلاف ما هو معتاد في باقي الايام، في وقت متأخر لنستمتع بسماع تعليقات الادارة والزملاء والمهتمين من اصدقاء المجلة.
ان هذه الفترة القصيرة والمليئة بالتوتر والقلق يحيلها ناجي الى ساعات ممتعة بتعليقاته على المادة المعدة للنشر وعلى الاحداث عموما بسخريته الشديدة وتعليقاته التي غالبا ما تسير باتجاه معاكس لما ينشر حتى من قبل مجلة الطليعة المعتبرة حينها من المجلات الجريئة بل والمشاكسة.
كان ناجي شديد النفور من الكتابات التي تحتوي الكثير من التنظيرات او ‘’المتعالمة’’، ويصب جام تعليقاته اللاذعة عليها، الا انه وفي الوقت نفسه كان يمتلك حسا مرهفا اصيلا او نقديا للاوضاع السائدة.
وقد تضافرت ظروف شخصية وعامة على جعل اقامتي في الكويت قصيرة، حيث غادرتها في نهاية صيف 1965 عقب مرض ألم بي وأسلمني لمبضع الجراح، الا ان ناجي ذا الجسم النحيل والبنية التي لا توحي بالمتانة لم يغادر ذلك الموقع الا بعد ما اغلقت مجلة الطليعة فيما بعد... ومع ذلك فإنه سرعان ما عاد الى الكويت مع مهنة المتاعب التي اصبحت حياته مرتبطة بها وذلك في اقرب فرصة سنحت له للعودة الى الكويت.
لم ألتق ناجي بعدها الا بعد سنوات عدة أثناء زيارة سريعة الى الكويت ربما في اواخر الستينات حيث تراكمت في تلك الحقبة احداث جلل افدحها وابرزها هزيمة 1967 واحتلال اسرائيل باقي الاراضي الفلسطينية واراضي دولتين عربيتين (الجولان وسيناء) واعلان بريطانيا عزمها الانسحاب من منطقة الخليج قبل انتهاء عقد الستينات وتسابق جميع القوى على ترتيب اوضاع ما بعد الانسحاب وصعود المقاومة الفلسطينية. ومع ذلك فإن اول ما سمعته منه هو تلك التعليقات المليئة بالمرارة والاحباط والشكوى من الظواهر التي بدأت تطل برأسها وتتفاقم وهو ما جسدته شخصية (حنظلة).. اما اللقاء الاخير فقد كان في ربيع 1987 حينما حرصت على زيارته في المعرض الذي اقامته له الدائرة الثقافية في الشارقة على هامش المعرض التشكيلي السنوي العام لجمعية الامارات للفنون التشكيلية. وذلك بعد ما يربو على العقدين على لقائنا الأول. وقد بدا سعيدا بلقائي والتقاط آخر اخباري. ولعل اكثر ما أبهجه زواجي وتعرفه على زوجتي الفنانة التشكيلية التي دخل معها فورا في حديث عن الذكريات وحوار طويل في هموم الفن التشكيلي المشترك بينهما الذي طال ولم ينته الا بالوعد باستكماله في ابوظبي التي قبل بكل حماس الدعوة التي وجهتها له باسم المجتمع الثقافي في ابوظبي لاقامة معرضه القادم والالتقاء بجمهوره الواسع وبمحبيه الكثر. الا ان يد القدر كانت بالمرصاد وفجعنا بفقده ذلك الصيف.
ها قد مر عقدان كاملان على غياب ناجي العلي ومع ذلك فإننا اكثر احساسا بحضوره بيننا.