إذا أراد الجيل الذي لم يكتب له العيش في فلسطين ومعاصرة أحداث التآمر على هويتها و الشعور بالمرارة الحقيقية لمأساة النكبة التي مازالت آثارها مستمرة معرفة حقيقة ما جرى , فإنه يلجأ في كثير من الأحيان لكتب التاريخ التي تعد مرتعاً خصباً للتزوير و قلب الحقائق .
ولكن لابد لهذا الجيل من اللجوء إلى الذاكرة الحقيقية التي ترفض النسيان .
الحاج أحمد عبد المعطي (أبو فايز) جزء من هذه الذاكرة التي مازالت الحقيقة و أحداثها تحيا في داخله, و يأمل دوماً بتوريثها لمن بعده .
تركت الصعاب وسنوات النكبة و الغربة آثارها على و جهه ,لكن سهول فلسطين و أشجارها لا تزال خضراء في داخله كما تركه آخر مرة.
عرف طرقات كثيرة قادته و قادت الكثيرين إلى التشرد و اللجوء لكن طرقات قريته لا زالت تضج بأهلها .
هذا الطريق يؤدي إلى الحقل, وهذا يؤدي إلى المسجد, و الآخر يصل القرية الهادئة بالمدينة , و .................
أما ما يربطني بأبي فايز وهو من سكان الطنطورة أن كلينا مشترك في محطة اللجوء الذي يجسده أكثر من 4 ملايين فلسطيني يعيشون خارج وطنهم .
يتوقون لصناعة مصيرهم القادم و إعادة ما فقدوا بظروف كانت أكبر من قدراتهم البسيطة , و بأماني زينها لهم من يدعون قيامهم بواجبهم عندما حاربوا ببنادق مكسورة طائرات العدو .
دعاني أبو فايز إلى بيته , و جلسنا في مضافة عربية أعادتني إلى تاريخنا عندما كان يجتمع العرب عند كبيرهم لحل مشاكلهم , ويتوج اجتماعهم بحل يرضي جميع الأطراف دون الحاجة إلى تدخل طرف ثالث يدعي الحرص على المساعدة و هو لا يأبه إلا بمصالحه .
و لم يغب عن أبي فايز دعوة رفاقه القدامى للمشاركة في تصوير ملحمة فلسطين, وكل واحد منهم أشبه بموسوعة فلسطينية و منهم الحاج يوسف سلام ( أبو موسى ) .
- و أول سؤال طرحته على الحاج أبي فايز ذكرياته عن الطنطورة , الذكريات التي أصبحت النبع الذي ينهل منه كل فلسطيني ظمآن لأرضه , وعن التكوين السكاني و النشاط البشري لأهل القرية .
أبو فايز: الطنطورة تقع على الساحل الفلسطيني جنوب حيفا و تحيط بها قرى : كفر لام , الفريديس , عين غزال و جسر الزرقاء وعدد سكانها حوالي 1200 نسمة , عملوا بالزراعة و صيد السمك .
بعد صلاة الفجر كنت أذهب و أبي إلى صيد الرزق من البحر , متوكلين على الله , لنتلقي مع بقية الصيادين عند الشاطئ , وكانوا بعد إلقاء التحية يتحدثون عن حصيلة أمس من الصيد دون أن يخفوا أملهم بصيد وفير في اليوم الجديد , راضين بما قسم الله لهم من رزق . منتظرين شروق الشمس التي تؤدي أشعتها إلى ارتفاع حرارة المياه فتبدأ الأسماك بالغوص إلى الأعماق و عندها نلقي الشباك في البحر حتى غروب الشمس , و كانت حصيلة الصيد تنقل بالشاحنات إلى حيفا لبيعها وثمن الرطل بحوالي شلن .
كما كان الصيادون من غزة و يافا و الجورة يقيمون في الطنطورة أواخر شهر أيار بانتظار موسم السردين الممتد من حزيران حتى آب .
و ساحل الطنطورة يضم أرخبيلاً من الجزر المتصلة ببعضها وهي : جزيرة فلاتية , أعمر , الشدادة , الحمام و سطيح .
وسميت جزيرة سطيح بهذا الاسم لقربها من الشاطئ و كان الصيادون يستريحون عليها . و جزيرة الشدادة فيها قصر روماني يحوي طاولات و كراسي منحوتة من الحجر و كانت أفراح القرية تقام فيها.
صمت الحاج أبو فايز وكان وهو يتحدث إلينا من قبل يتفاعل مع مواقف حياة أهل قريته كأن صورتها ماثلة أمامه, و هو بهذا التفاعل يرفض الواقع الذي أدى إلى تدمير قريته من قبل الصهاينة .
سألته بعدها عن حياة الفلاح لأنقله إلى مناخ نفسي آخر قد يعيد إليه لذة استدعاء مخزونه الإنساني و يبعد عنه ألمه .
على الرغم من الجهد الذي يمنحه الفلاح للأرض و عناء متابعة الأمطار, إلا أنه كان قادراً على خلق الفرح آخر العام حيث يصبح موسم الحصاد عيداً يحتفل به و يحمد الله على ما أعطاه و من ّ عليه .
والمحاصيل الزراعية متنوعة كالقمح و الشعير إضافة إلى البندورة و الخيار و البطيخ و السمسم الذي ينقل إلى قرية المنارة المجاورة لعصره و استخراج الزيت منه.
و سألت الحاج أبو فايز عن ثورة 1936 ومشاركة أهل الطنطورة فيها ليكون وصف هذه الأحداث مدخلاً لتصوير النكبة و ممارسات الصهاينة .
نعم اشترك أهل الطنطورة في الثورة و أذكر أن القائد نعيم المصري و الشيخ علي سلاّم كانوا قادة فصيل في الثورة , وكان يخدم في الشرطة البريطانية عدد من شباب الطنطورة و زوّدوا الثورة بالقنابل متن مستودعات سلاح البوليس البريطاني .
وأضاف أن نهاية الثورة كشفت عن مؤامرات كانت تحاك لإخمادها تمهيداً لتسليم فلسطين مجاناً للصهاينة .
وفي حديثه عن نكبة 1948 قال الحاج أبو فايز: قبل الهجوم على الطنطورة بأيام اقتحم اليهود قرية كفر لام المجاورة لنا و احتلوها .بعدها أنذرونا عن طريق مختار زمرين بتسليم القرية دون مقاومة , فرفض الأهالي الإنذار . و بدأ الهجوم على الطنطورة في 23 أيار الساعة 11 ليلاً من ناحية تلة الكركون و استشهد 4 أشخاص , و توقف الهجوم حوالي العاشرة صباحاً حيث أرسل اليهود تعزيزات من جهة البحر بواسطة القطار الذي يصل حيفا بيافا , و جمعوا أهل القرية عند شاطئ البحر وكانوا يختارون من بينهم أفراداً و يقتلوهم بدم بارد رمياً بالرصاص دون تمييز بين طفل و امرأة أو شيخ عجوز و شاب و دفنوهم في مقبرة جماعية . ونقل الأحياء من النساء و الأطفال إلى قرية الفريديس .
تدخل الحاج يوسف سلاّم ( أبو موسى ) الذي كان شاهداً على ما جرى و كان عمره حينها 24 سنة مضيفاً : الرجال و الشباب وكنت من بينهم نقلوا إلى دائرة زمرين حيث تم التحقيق معنا لثلاثة أيام ثم أخذونا إلى سجن أم خالد عند مفرق طولكرم حيفا يافا و كان قبل ذلك معسكر للجيش العراقي , ثم نقلنا إلى قرية جليل قضاء يافا و بنوا معسكر اعتقال على شاطئ البحر و بقينا فيه مدة سنة , و كان معنا في المسكر ضباط و جنود من الجيش المصري و العراقي و المصري اعتقلوا بكامل عدّتهم العسكرية .
وفي المعتقل اقترح علينا رجل من يافا فكرة الهروب من المعتقل و اتفقنا أنا و شخص من قرية عزّون و ابن خالتي (أنور فرحات ) على الهروب وكان الوقت حينها بعد منتصف الليل و السماء تمطر وترعد , و للهرب لابد من خلع ملابسنا كي نتمكن من النفاذ من الأسلاك الشائكة .
بدأت أنا و تجاوزت السلك الأول و الثاني و فتحت ثغرة في السياج ممهداً الطريق لرفاقي و تجاوزت الحرس .
و تمكنت من الهرب و حدي , ارتديت ملابسي و بدأت بالمشي بحثاً عن مدينة أو قرية لم تسقط بيد العدو حتى وصلت حدود تل أبيب , بعدها قررت العودة إلى المعتقل , اتجهت شرقاً إلى نهر العوجا و قطعت النهر ووصلت الطرف الآخر منه , لأجد نفسي في بيارة برتقال و كريفوت , و بقيت فيها حتى الصباح عندما سمعت صوت أقدام أحدهم ,حسبته للوهلة الأولى يهودي لكنه كان صاحب البيارة و هو فلسطيني و رحب بي و طلبت منه إرشادي إلى طريق القرى العربية , و دلني إلى بلدة بين قلقلية و طيرة بني صعب و التقيت فيها برفاقي الذين هربوا بعدي من المعتقل , و كانت أخبار هروبنا قد نشرت في الصحف .
و ذهبنا إلى نابلس ثم إلى طولكرم و دخلنا مقهى للاستراحة و شرب الشاي و لم نكن نحمل النقود لدفع ثمن الشاي فشرحنا لصاحب المقهى قصتنا , فرحب بنا و استضافنا في منزله إلى أن اتصلت بأحد رجال قريتنا و هو فوزي أبو شكر و غادرنا طولكرم إلى سورية .
عاود الحاج أبو فايز الحديث بعدما سألته عن مصير من نقل إلى الفريديس .
نعم الأطفال و النساء و الشيوخ نقلوا إلى الفريديس و أقاموا فيها مدة 28 يوماً لننتقل إلى المفرق و بعد ها سرنا على الأقدام حتى طولكرم و أقمنا فيها 11 يوماً ومن ثم انتقلنا إلى الخليل و أقمنا في دير مسيحي مدة 6 أشهر .
و كان أهل الخليل يحضرون الماء و الطعام لنا , و بعدها اتصل بنا أهل الطنطورة الذين فروا إلى سورية ووافق الملك عبد الله حينها على انتقالنا إلى سورية و نقلنا بالشاحنات من الخليل إلى مدينة درعا السورية و أقمنا في العراء (مكان كراج الباصات الحالي ) و نقلنا بعدها إلى بصرى و أقمنا في القلعة بظروف سيئة و مهينة لكرامة الإنسان حيث كانت الأرض فراشنا و السماء غطاءنا و لم يكن يجاورنا إلا الأفاعي السامّة . و يومياً كان يموت طفلين نتيجة للظروف الجوية السيئة حيث كان فصل الشتاء و تساقط الأمطار و الثلوج .
وكنا نخرج إلى البريّة لإحضار العشب اليابس و أغصان الأشجار و الشوك لإيقاد النار علّها توفر لنا قليلا ًمن الدفء . وخلال إقامتنا في بصرى التي امتدت لستة اشهر قاسينا من الألم و العذاب لا تستطيع الجبال تحمّله .
للنتقل بعدها إلى السويداء و أفمنا في معسكر للجيش الفرنسي وغاد رناها إلى دمشق عام 1952 و أقمنا في مخيم اليرموك و بعض العائلات أقامت في القابون أو حرستا و البعض الأخر أقام في اللاذقية في مخيم الرمل .
و بنهاية لقائي مع رجل عاش جزءاً من عمره في فلسطين ومعظم عمره لفلسطين كان لابد من طرح السؤال الذي طالما راود و دغدغ مشاعر كل لاجئ و العودة إلى فلسطين أو الاقتناع بالأمر الواقع ؟
أبو فايز : صحيح أن شعبنا شعب عملي تمكن من بدأ حياته من جديد خارج أرض الوطن و صحيح أن معظم اللاجئين أصبح لهم بيوتهم خارج فلسطين لكن هذا لا يعني التخلي عن حق العودة إلى فلسطين , و أنا واثق تمام الثقة بأن كل لاجئ مستعد للتخلي عن كل ما يملك في مخيمات اللجوء و المنافي مقابل العودة ألى فلسطين , العودة حق مقدس لا يحق لأيّ كان التنازل أو التفاوض عليه .
مهما طال الزمان لابد من أن يحق الحق , وكل لاجئ من الجيل الأول مثلي زرع في أبنائه حب فلسطين و التمسك بحق العودة إليها و سنورث هذا الحق للأجيال التي تليهم حتى العودة و النصر بإذن الله .
ختم الحاج أبو فايز بهذه العبارات وكان كل شخص من الجالسين يهزّ رأسه موافقاً على ما قال .