دخانٌ يتطاير بشكلٍ عشوائيٍ من سيجارةٍ نصفها رماديٌ ملتو محترق و نصفها الآخر أبيض لم تطله النار بعد بفمٍ تعلوه ابتسامة ٌ خفيفةٌ تُظهر أطراف أسنانٍ اصفرّت من شدة حبها للتدخين , ببنطاله الداكن و قميصه الخمري المرقط بالدوائر البيضاء رد علي كعادته " و عليكم السلام تفضل " إنه الحلّاق الذي أمر بجوار محله كلَّما خرجت من منزلي , طرحت السلام و اتبعته بخطوةٍ مترددةٍ لا تريد المتابعة منزلاً قدمي ببطءٍ بعدما كانت عيناي قد قرأت مقدمة الإعلان الذي استدرت لقراءته بتمعّن .
آمالٌ و أحلامٌ أسير بها على طريقٍ رسمته لنفسي مرتطماً بصخرةٍ أغلقت علي أكثر من نصفه ألا و هي قلة الحيلة , الأمر الذي اقتضى اتخاذ قرارٍ بعدم إهدار الفرص فبدأ عقلي بالجذب , جذبٌ أوقفني عند إعلانٍ لا يتجاوز حجمه النصف مترٍ مربع بلونه الشاحب و كتابته السوداء متوسطة الحجم معلّقٌ بزاويةٍ شبه ميتةٍ بشريطين لاصقين فُكَّ أحدهما على واجهةٍ زجاجيةٍ لصالون حلاقة أمر بجواره عادةً.
كهرباء صناعية و تحكم آلي , جملةٌ أوقفتني عند الإعلان فهذا ما أردته لتنمية مهاراتي في مجال التحكم الصناعي و أقسامه, واضعاً يدي كاملةً بالجيب اليساري لبنطالي الأسود القماشي ممزقاً بخاتمي الذي أرتديه عادةً زاويته السفلية من سرعة إدخال يدي مخرجاً هاتفي الجوال لأدوِّن عليه رقم الهاتف الموجود أسفل الإعلان .
عدت إلى البيت بخطىً ملؤها التفاؤل متسائلاً في ذهني , مشروع دعم الشباب !؟ , أليست نفس المؤسسة التي ذهبت لحضور حفلها التعريفي الذي أذكر حينها عند دخولي صالة الحفل لفت نظري تحزُّب الحاضرين ما بين الفصائل الفلسطينية و رابطة الفنانين إضافةً إلى المعرّفين بهذه المؤسسة لم يبق سوى بعض المقاعد الشاغرة للمهتمين و التي اخترت أحدها للجلوس عليه مع صديقي , متأملاً بالمرأة الأربعينية في عمرها ببشرتها الحنطيّة و شعرها شبه الأشقر بجذوره الداكنة و بزّتها الرمادية الرسمية و قميصها الأبيض بعيونٍ مملوءةٍ بالحماسة و التصميم كانت تدافع بشراسةٍ عن المؤسسة التي تعمل بها مجيبةً عن تلك الأسئلة المبطنة بالسياسة تارةً و المصالح الشخصية تارةً أخرى مقترباً من صديقي الذي كنت جالساً بجانبه حتى كادت شفتاي تلامس أذنه قلت " ألم تلاحظ أن هذه الأسئلة خارجةٌ عن سياق الحفل " فهزّ رأسه دون أن يلتفت إلي قائلاً " إنك على حق " فمن سائلٍ لماذا غيرتم شعار الأونروا لسائلٍ لماذا لا تدعمون المشاريع الفردية الخاصة نجحت تلك المرأة بإخماد فتيل الإحباط الذي حاولوا أن يشعلوا به نار اليأس في قلوب المهتمين فآثرت حينها ألا أسأل إلا على انفراد , و بانتهاء السائلين من وليمتهم و خروج الحاضرين اللذين أتوا لإثبات الوجود متابعاً تلك المرأة التي كانت تودِّع الحاضرين بابتسامةٍ لا تخفى بها خيبة الأمل تقدّمت إليها بخطىً مسرعة لأتمكن من الحديث معها على انفراد قائلاً " مساء الخير سيدتي " فالتفتت إلي قائلةً " أهلاً و سهلاً " فسألتها " أنا طالبٌ جامعيٌ بسنته الأخيرة , كيف لي أن أستفيد من مشروعكم " فأجابت " أنا اسمي فداء عوض مسؤولة الإرشاد الوظيفي راجعني في مكتبي يوم الأحد و سأخبرك كيف يمكنك الاستفادة من هذا المشروع " .
أيقظني من هذه الذكريات و صولي إلى باب بيتنا الذي دخلته بفكرٍ تملأه التساؤلات رافعاً سماعة الهاتف متصلاً بالرقم الذي دوّنته من الإعلان , أجابني صوتٌ أنثويٌ هادئٌ فقلت " صباح الخير سيدتي " , قالت " أهلاً و سهلاً " , قلت " لو سمحت أودّ أن أسأل عن الدورات الموجودة في إعلانكم و خاصةً الكهرباء الصناعيّة و التحكم الآلي " فأجابت " إن رسم الاشتراك بالدورة هو 1000 ليرة أما لأصحاب الحالات الصعبة فهو 200 ليرة و باقي التفاصيل فهي عند الموظفة المسؤولة و هي ليست هنا الآن عاود الاتصال بعد ساعة ٍ ستجدها " .
أغلقت سماعة الهاتف مدهوشاً بقلة المبلغ المطلوب منتظراً انتهاء الساعة التالية لأعاود الاتصال , نصف ساعةٍ كانت كافيةً لي لتكرار المحاولة و إذ بصوت أنثويٍ غير السابق يجيب على الهاتف فقلت " مرحباً سيدتي لقد اتصلت قبل قليل لأستفسر عن الدورات الموجودة في إعلانكم لكنّ الموظفة المسؤولة لم تكن موجودة , فهل حضرت ؟ " فقالت " أنا هي " و ما بين أخذ و رد تضلّع صدري بالتفاصيل التي سألت عنها و كان سؤالي الأخير " متى بإمكاني الحضور للتسجيل " مجيبةً " الآن إن أحببت فأنا متواجدةٌ هنا حتى الثانية ظهراً " .
أنهيت الاتصال دون إغلاق السماعة التي ما زالت على أذني متسائلاً من أخبر أولاً فأجابتني رنة هاتفٍ في أذني مدركاً أني قد طلبت رقماً دون أن أشعر و إذ بعبيدة يقول " أهلاً أحمد كيف حالك " مخبراً إيّاه عن الإعلان قال " أعطني التفاصيل في لقائنا المسائي المعتاد " , أنهيت المكالمة طالباً رقم عمار فتتالت الرنّات دون إجابة و إذ بجرس الباب يُقرع و لم أغلق الهاتف بعد و سمعت صوتاً يناديني عبر النافذة مازحاً أنا هنا و لن أجيب على اتصالك , إنه عمار أدخلته شارحاً له التفاصيل التي علمتها و متحمسين للفكرة ذهبنا للتسجيل .
شقتين متلاصقتين ضمن عمارةٍ خاويةٍ على عروشها إلا من الطابقين السفليين الذي كان ثانيهما مركز مشروع دعم الشباب داخلين إلى إحداهما وجدت وجهاً مألوفاً بسماره و ابتسامته الدائمة لشخصٍ يقطن بجوار منزلي إنها عبير , سائلاً إياها عن مسئولة التدريب المهني أين أجدها ؟ , فأجابت " أنا هي " .
بشبه دهشةٍ رُسمت على وجهي قلت " أنا الذي اتصلت قبل قليل لأسأل عن دورة الكهرباء الصناعية و التحكم الآلي " , و بابتسامة ترحيبٍ قالت " أهلاً و سهلاً تفضلا معي إلى المكتب " .
فأدخلتنا إلى مكتبٍ متواضعٍ بجدرانه البيضاء و مكتبته الخشبية الداكنة التي تملأ الحائط المحاذي للباب جالساً على كرسيٍ بلاستيكيٍ بني متكئاً على مكتبٍ خشبيٍ بلونه الداكن أيضاً رحت أتأمل باللوحة البلاستيكية البيضاء التي كُتب عليها بأحرفٍ زرقاء نافرة ( عبير محمود مسؤولة التدريب المهني ) بينما ظلَّ عمار واقفاً , فقالت و هي تملأ الاستمارات دون أن ترفع نظرها إلينا " سأبلغكم بموعد الدرس الأول عند اكتمال النصاب " .
تتالت الأيام و سجّل عبيدة تبعه علاء فأسامة و محمد إلى أن انتهت عطلة الربيع , وفي ظهيرة يومٍ لا يخلو من البرد أواخر شباط سمعت نغمة الرسائل الكلاسيكية تصدر من هاتفي الجوال قرأت الرسالة التي لم أكن أتوقع ما فيها , إنه الموعد المنتظر موعد الدرس الأول إنه اليوم عند السابعة مساءً في المركز المهني , ما بين مشاغل الحياة و صعوبة الانتظار مرّت الساعات و حان الوقت و كنت حينها قريباً من الموقع المطلوب التواجد فيه, متحمساً لدخول هذا المبنى الذي لم أزره من قبل متجهاً نحو لوحة ٍ نحاسيةٍ كُتب عليها بخطٍ أسود عريض ( الإدارة ) لأسال عن مكان التجمّع , ففوجئت بابتسامةٍ شاهدتها رُسمت على وجهٍ بريءٍ أعرف صاحبته بالاسم فقط كنت قد لمحتُه في تلك الزيارة اليتيمة لمركز مشروع دعم الشباب ,إنها عِبر , قلت " مساء الخير سيدتي , أنا طالبٌ في دورة " وقبل إنهاء جملتي قالت " إنّ زملائك في القاعة الأولى " داخلاً إياها و لم أعرف فيها سوى الوجوه التي ألِفتُ معظمها على مقاعد الدراسة و بانتظار ما هو آت دخل علينا شابٌّ ببذلته الرسمية الداكنة برفقة عبير التي عرّفته لنا أنه مدير المركز ومعهم رجلٌ يزيد الشيب من وقاره ببنطاله الأسود المخمل و قميصه الآجرّي و سترته الجلدية السوداء و بابتسامةٍ لم تفارق وجهه عرفنا بنفسه , إنه مدرب الكهرباء الصناعية .
لم يتعد الدرس الأول التعرّف على المدربين و الفرز إلى مجموعات كلٌّ حسب الوقت المناسب له و إيعازاً بانطلاق الدورة .
و من بين ضغط الدراسة و حبّ اكتساب المهارات انبلجت ورقةٌ بيضاء طُبع عليها جدولٌ يحوي أسماء المشاركين و درجات أعمالهم معلقةً على لوحٍ خشبيٍ بمسمارين أبيضين خاصين لهذا النوع من اللوحات معلنةً انتهاء الدورة بأشهرها الست التي قضيناها بحلوها و مرّها براحتها و أرقها و قد تكللت بنجاحٍ ناتجٍ عن مثابرة المتدربين و جهود المدربين و متابعة المسؤولين .
بعيونٍ مترقّبة لغدٍ أفضل و إرادةٍ لن تثنيها الصعاب و عزيمةٍ لن تضعفها العقبات و بقاموس رجالٍ حُذفت منه كلمة اليأس و عرفاناً بالجميل أقول لمشروع دعم الشباب بفدائه و عبيره و عبره " شكراً لكم " .