« خرجنا من فلسطين بسبب الخيانة العربية ».. بهذه العبارة بدأ الحاج رشيد شكري شريح _ مواليد ترشيحا قضاء عكا 1904_ حديثه الممزوج بالشجون والفخر والأسى عن أيام البلاد.. عن فلسطين، ومعارك أبنائها ضد الاحتلال البريطاني والغزو الصهيوني. يسترسل الحاج رشيد: «كنا منتصرين، وكانت لدينا القوة الكافية لإخراج اليهود والإنجليز في آن واحد من بلادنا، وكان الإنجليز دائمي الانسحاب من المعارك، خلال الأيام الأولى من كل معركة بسبب صمودنا، أما نحن فكنا نغني ونرقص نصراً على أعدائنا وكان أهالي البلدات التي تشهد معارك ضد اليهود والإنجليز يغنون طرباً وانتصاراً وكأن لديهم عيد يحتفلون به.
كان عام 1939 حافلاً بالانتصارات وكانت الدولة العربية الوحيدة التي تساعدنا آنذاك هي سورية، حيث قدمت لنا الرجال والأسلحة والذخيرة..وكان الضباط والقادة السوريون يشتركون معنا في المعارك ونتيجة ذلك كله وبفعل تلك الانتصارات المتعاقبة بدأ اليهود يرحلون عن فلسطين أفواجاً أفواجاً، وكان كل فوج يخرج فيه 50 ألف يهودي، ..كنا منتصرين..
الخيانة العربية .. والدور البريطاني
بعد اجتماع طلب ملوك الدول العربية مع بريطانيا وصدور الكتاب الأبيض، أكد لنا الزعماء العرب أن بريطانيا أصدرت ذلك الكتاب الذي ستسلم لنا بموجبه فلسطين بعد انتهاء الحرب، شرط تسليمنا أسلحتنا وذخيرتنا، للأسف خدعنا وسلمنا أسلحتنا للبريطانيين بعد أن كنا منتصرين عليهم وكان أملنا كبيراً أن لا نبقي أي يهودي أو حتى إنجليزي في فلسطين.وبعد انتهاء الحرب دخل إلى فلسطين 50 ألف يهودي برفقة الجيش البريطاني وتحت حمايته، معززين بالمصفحات والمجنزرات، وصارت بريطانيا تسلم معسكراتها في فلسطين إلى اليهود بكل معداتها العسكرية، لذا لم نشعر إلا ونحن عزل أمام مسلحين، فصرنا نبيع أراضينا لنشتري قطعة سلاح ونقاوم بها اليهود، والحمد لله قاومنا قدر استطاعتنا..
تفاصيل المعارك ودور جيش الإنقاذ
كان عدد سكان بلدتنا ترشيحا آنذاك خمسة آلاف نسمة، وفي ترشيحا وقعت ثلاث معارك، وكنا منتصرين فيها،وكان لدينا كتيبة من 300 قطعة سلاح ورشاشين اثنين.. وقاومنا:
* المعركة الأولى:
في أولى معاركنا ضد اليهود استمر القتال 8 ساعات ونتيجتها استشهد منا شخص واحد، بينما قتل من اليهود 95 يهودياً..
من ثم وصلنا القائد فوزي القاوقجي قائد الجيوش العربية وخطب فينا خطابه التاريخي، ووعدنا أن رقبة ترشيحا لن تطير، ومدنا بـ 550 جنديا مسلحاً وبأربع مدافع _اثنين للطائرات واثنين للجبليات_ فامتلكنا قوة معنوية ومادية كبيرة جدا..
* المعركة الثانية:
استمرت المعركة الثانية بيننا وبين اليهود 65 ساعة ونصف، ساعدنا فيها جيش الإنقاذ، واعترفت هيئة الأمم بقتل 550 قتيل من اليهود، فيما استشهد شخص واحد يمني من جيش الإنقاذ الذي كان موجوداُ في ترشيحا، حيث كان هناك 15 عربياً يمنياً ضمن صفوف جيش الإنقاذ المتواجد في ترشيحا.
* المعركة الثالثة:
بعد مدة هاجمونا بـ22 ألف يهودي، وعلى الفور ومع بدء الهجوم انسحب جيش الإنقاذ من ترشيحا.. كنت أحمل منظاراً استلمته من القيادة، وبعد انتصارنا عليهم بأرض الجفية، رأيت طائرتين تتقدمان نحو البلدة، ظننا أنهما سوريتان ولكنهما كانتا إنجليزيتان، فور وصولهما البلدة أسقطوا عليها 12 قنبلة، على ثلاث دفعات متتالية، وأنا أنظر إليهم في المنظار..فدمرت البلدة كلها بعضها البعض. وسقط 450 شهيداً من بلدتنا تحت الحطام والركام عند انتهاء الغارة، ونتيجة ذلك إضافة إلى انسحاب جيش الإنقاذ وعدم امتلاكنا سلاح أو ذخيرة أجبرنا على الانسحاب والخروج القسري ترشيحا رغما عنا. فلم يعد بإمكاننا البقاء. خرجنا حفاة عراة لا نملك أي شيء، خرجنا بثيابنا التي نرتديها فقط، ولم نأخذ معنا أية أوراق ثبوتية أو شخصية، حتى أن زوجتي تركت حليها الذهبية "صاغتها" في خزانة المنزل.
وعن حياته الشخصية قال الحاج رشيد أنه تزوج بفتاة فلسطينية مدة 13 عاماً ولم يرزقا بأطفال، فتزوج بعدها بأخرى وأنجب طفلة كان عمرها عام واحد عندما غادروا فلسطين عام 1948م.
حياة الفلسطينيين في المخيم
«حياتنا أمر من الصبر»، عشنا فوق بعضنا البعض في المخيم عند وصولنا إلى حلب، في ازدحام شديد، حيث كنا 16 عائلة في براكس واحد (barracks)، وتحملنا ذلك كله بهدف إنشاء أطفالنا على محبة فلسطين والتمسك فيها والنضال من أجلها، فمان الجيل الذي أنشأناه أكثر منا حباً لفلسطين، وأكثر وطنية، ذهب إلى فلسطين وقاوم منذ عام 1965 وحتى التسعين، من ثم وقعت الأحداث الأخيرة ولم نعد قادرين على الكلام.
كان المخيم يد واحدة، يختلف عن الجيل الموجود اليوم، فاليوم توفي معظم كبار السن الذين عاشوا في فلسطين، وقلائل الذين يعونها أو عاشوا فيها..
آه.. عندما يأتي ذكر فلسطين ونتذكرها ، تحترق قلوبنا..ولكن ليس باليد حيلة.
العودة إلى الوطن
لدى سؤالنا الحاج رشيد عن رغبته في العودة في حال أتيحت، قال: يا ليت هناك مجال للعودة إلى فلسطين، الناس التي ولدت في المخيم تتوق شوقاً إلى العودة وتموت في سبيلها، فما بالك بنا نحن الذين ولدنا فيها وعشنا شبابنا فيها بكرامتنا وعزتنا وفي بيوتنا وعلى أرضنا.. ولكن هذا الأمر محسوم من عند الله عز وجل، ولا نملك إلا أن نتمنى أن يكون ذلك في الوقت الذي نعيش فيه وليس في الجيل الذي يلينا والذي لن نعيشه، أملنا في الله تعالى أن توجد روح وطنية عربية تحرر فلسطين. كل شيء مكتوب في القرآن الكريم وموجود، فالله سبحانه يقول: « وقضينا لبني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ثم لتعلون علوا كبيرا... » إلى قوله «فإذا جاء وعد الآخرين يدخل القدس كما دخلناها أول مرة ويكبروا تكبيرا.» فهذا الأمر محسوم من الله عز وجل، ولكننا نتأمل رؤيتها قبل موتنا.
أما بالنسبة للعرب وما آلوا إليه فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها..» واليوم أموال العرب وثرواتهم تأكلها الدول الأجنبية، يأخذون البترول من العرب ويعطوه لليهود كي يقضوا على الأمة العربية... هناك أمور كثيرة لكنا لا نستطيع الكلام أكثر من ذلك..
لما نسمع أن اليهود هدموا بيت فلان أو قطعوا أشجار فلان من الفلسطينيين، والله أشعر أن سكاكين تقطع قلبي، لا يستطيع السكوت عن ذلك إلا الحمار الذي لا يفهم، عندما نرى ونسمع ... .. خليها لله..(تدمع عيناه..يصمت قليلا ثم يتابع): متعب..أنا متعب ولا أستطيع الحديث أكثر من ذلك...
يذكر أن الحاج رشيد عمل وما يزال مختاراً لمخيم النيرب للاجئين الفلسطينيين الذي يسكنه منذ خروجه من فلسطين عام 1948م، ويعد رشيد الأكبر سنا بين سكان المخيم، إذ يبلغ عمره 99عاماً.