لاتزال حكايات النكبة و مآسيها حية في الذاكرة الفلسطينية التي تأبى نسيان ما جرى، و تصر على الاحتفاظ بتفاصيلها لتبقى شاهدا على ما كابده شعب لاذنب له سوى أنه ولد وسكن فلسطين لآلاف السنين و ليقتلع منها بقوة الإرهاب و بخرافات صهيونية تدعي زوراً و بهتاناً بحقها في أرضه و وطنه.
و إحدى هذه الحكايات هي حكاية سيدة يافاوية ... ولدت قبل النكبة بأيام ثم هجرت من وطنها بعد ان فقدت الاتصال بعائلتها إلى مصر لتقيم مع عائلة مصرية رعتها في "الزقازيق"، وبعد جهود مضنية اكتشفت عائلتها مكانها ، لتعود إلى كنف العائلة في مخيم بلاطة،قبل أن يعيد التاريخ نفسه ويرسم طريقاً جديدا للتشرد والمعاناة في 1967 و لتبدأ فصول نكبة جديدة في "الرصيفة" في الأردن.
"عالية" ... لا ندري من أين جاء اختيار الاسم، ربما لو علم أهلها عند مولدها قبل النكبة بما ستؤول إليه حالها لسمّوها"يافا"... أو"فلسطين"كما جرت عادة اللاجئين في إطلاق أسماء المناطق التي هجروا منها على مواليدهم... لكن أحداً ما كان ليعارض لو أنهم اختاروا لها اسم"رحيل".
تفاصيل القصة يرويها اللاجئ "صبري ذوقان"،من مركز حق العودة وشؤون اللاجئين الثقافي بمخيم"بلاطة"،نقلاً عن والده الذي توفي قبل أشهر دون أن ينسى توزيع تركته في حياته، تلك التركة التي يقول عنها صبري إنها أمانة ثقيلة تنأى الجبال عن حملها لكن اللاجئين تعهدوا بحملها و توريثها للأجيال القادمة حتى يتحقق حلمهم بالعودة إلى فلسطين.
بداية الحكاية:
يقول صبري إنه كان لوالده "محمود" عم يدعى "حسني ذوقان" وكان يقيم مع عشيرته "السوالمة" على ضفاف نهر العوجا في منطقة قريبة من يافا الساحلية، وكان يعتاش مع كل أفراد عشيرته من إنتاج مزارعهم وبياراتهم التي يعملون بها وكان لديه عمال يساعدونه في الزراعة بينهم عرب مصريون قدموا إلى فلسطين مع عائلاتهم طلبا للرزق.
ويقول صبري: " في العام 1947 ولدت زوجة العم حسني طفلتها"عالية"، وتوفيت الأم خلال الولادة، لقد جاءت عالية للدنيا فاقدة للأم وحنانها لكنها لم تكن تعلم أنها ستفقد دفء العائلة و الوطن أيضاً".
ويضيف صبري: " احتضنت عائلة المزارع المصري التي تعمل مع عائلة عالية الطفلة، وأرضعتها زوجة ذلك المزارع مع احد أبنائها حتى أصبحت شقيقته في الرضاعة، وبعد عام وقعت النكبة و مارافقها من مآسي".
ليهجر الفلسطينيون من أرضهم وديارهم وأموالهم ويتفرقوا عن بعضهم البعض من شتات إلى شتات،حتى ان هناك عائلات توزع ابناؤها بين مخيمات"الضفة" و"غزة"،و"سوريا"و"لبنان"و"الأردن"، كان همهم الحفاظ على الحياة.
أما الطفلة الرضيعة"عالية" فقد كان قدرها الهجرة دون أن تدري مع العائلة المصرية التي احتضنتها إلى أرض جديدة ووطن جديد في "الزقازيق" في أرض الكنانة"مصر"،فيما استقر أهلها الحقيقيين في مخيم"بلاطة" للاجئين شرق "نابلس" في الضفة الغربية.
يقول صبري :" لقد جرت العادة في تلك الفترة اعتبار المفقودين من اللاجئين موتى، كان الحديث عن أرقام الشهداء الكبيرة في المجازر والمقابر الجماعية التي نفذتها عصابات "الهاجانا" و"شتيرن" و"البالماخ" وغيرها لا يترك مجالا لأحد ليعتقد ان ابنه أو أي قريب مفقود له مازال على قيد الحياة وهذا كان مصير"عالية"التي سلم أهلها لمشيئة الله وأقنعوا أنفسهم بفقدان الطفلة و تسجيلها في الذاكرة التي ترفض النسيان كشهيدة.
نهاية الحكاية:
وتعود الذاكرة التي سلمت على مضض بفقدان الطفلة إلى الأبد وبعد فترة من الزمن لتكتشف مصير"عالية"،عن طريق أحد أقاربها الذي استقرت به حياة اللجوء في مصر للدراسة حيث تعرف إلى احد أبناء عائلة المزارع الذي تعيش عندهم عالية كابنة لهم، راسل أهله، وابلغهم ان ابنتهم المفقودة لم تستشهد في النكبة وإنها تعيش كفتاة مصرية مع عائلتها الجديدة في"الزقازيق".
والد عالية تلقى الخبر كهدية غير منتظرة ساقتها له السماء، سيلقى ابنته التي طالما تمنى أن يلقاها في الجنة، سيراها وهو لا يزال على قيد الحياة،و يتابع صبري: "كانت لهفة العائلة للوصول إلى ابنتهم التي حاولوا إقناع أنفسهم بفقدانها إلى الأبد كبيرة، لكن الظروف السياسية والجغرافية لم تكن لتسمح، كيف ستأتي إلى هنا ومن سيذهب لإحضارها وهل سيسمح لها من هجرها و هجر الملايين غيرها بالعودة إلى فلسطين؟.
كلها أسئلة كانت تدور في الذهن،لكن سؤالا أهم كان يتصدر المشهد ماهي ردة فعلها عندما تعرف حقيقة أنها فلسطينية الولادة،وفلسطينية الدم والهوى ؟؟.
أجرى الطالب الفلسطيني في مصر اتصالاته مع محافظ "الزقازيق" لتسهيل المهمة، فيما قام الفلسطيني والنائب في البرلمان الأردن حينها "راشد النمر"بالتحركات الدبلوماسية اللازمة لتسهيل عودة"عالية"إلى أهلها.
وسافر والدها إلى"الزقازيق" للقاءها، كان يحس انه عاش نكبتين،نكبته بفقدان ابنته سوف تنتهي،أما نكبته مع ملايين اللاجئين فكان يأمل ان تنتهي أيضا.
صدمت عالية حين علمت بقصتها، رفضت في البداية تقبل القصة، أنكرت أن لهجتها وثيابها المصرية، هي سمات اكتسبتها فلسطينية هجّرت عن أرضها دون ان ترتكب ذنباً. وأخيراً أقنعها الوالد المصري أنه لم يكن أباها الحقيقي.
وتم الترتيب لعودتها إلى ارض الوطن وكان ذلك في العام 1965 حيث نقلت من مطار"القاهرة" إلى مطار"قلنديا" قرب القدس.
خرج كل من يعرف العائلة للقاء"عالية"في مطار"قلنديا"ثم عادوا بها إلى مخيم "بلاطة"،كان المشهد "بروفة" مصغرة للعودة التي طالما حلم بها و عاش لأجلها كل لاجئ فلسطيني.
لتعود عالية إلى جذورها إلى العائلة التي لم تنسى في يوم من الأيام طفلتها ذات الربيع الأول،لتعود إليهم بعد طول غياب شابة في مقتبل عمرها، لم تصدق "عالية"بثيابها ولهجتها المصرية أنها كانت ضحية نكبة حرمتها كما حرمت مئات الآلاف غيرها من حنان و دفء العائلة بعد فقدانها لحنان أمها التي توفيت عند ولادتها.
و تبدأ "عالية" حياة جديدة بعد زواجها من ابن عمها وهجرتها معه إلى"الرصيفة" في الأردن بعد نكسة 1967.
ويقول صبري ذوقان:" عالية من بنات عمي وزوجها كذلك، رحلوا من يافا إلى بلاطة ثم الأردن، لكن أطفالهم لم يعيشوا مرارة التنقل، إنهم يستمعون دائما لهذه الأحاديث فلا تزيدهم إلا تمسكا بحق العودة إلى"يافا".ولسان حالهم يردد دائماً،"لو تحركت الشمس إلى اليمين، ولو تخلت الأهرام عن حجرها المتين، ولو عاد كل صهيوني لرحم أمه جنين، لن نتنازل عن شبر من ارض فلسطين".