كنت في سيارتي انتظر صديقاً في حارة من حواري جدة القديمة يعد صلاة العشاء عندما طرقت زجاج شباكي سيدة عجوز تطلب أن أوصلها إلى دكاكين سوق باب مكة القريب . كنت أتوقع أن صديقي سيتأخر قرابة النصف ساعة في معهد ليلي وأنني سأعود قبل خروجه من الحصة الأخيرة ، فلم أهتم بإبلاغه .
وفي الطريق إلى السوق حكت لي قصتها . تقول بأنها أم لسيدة مات عنها زوجها وتركها مع عدد من الأطفال ، أكثرهم في سن المدرسة . وهي تعيش مع ابنتها وأحفادها في مأوى (رباط) وفـّـره أهل الخير لها ولمقطوعات مثلها . وهي لا تشكو ، بل الحمد لله على الستر وتفخر بأن أحفادها كلهم " أولاد مدارس " ، من البيت إلى المدرسة إلى المسجد . (و ليسو أولاد شوارع و مقاهي ، وقلة أدب ، مربين أحسن تربية ، وعينهم مليانة من كل شئء) كما تقول .
وتفصّـل في مسألة العين المليانة فتقول : انا وبنتي نحرصأن يكون الاولاد دايماً شبعانين ، و ما في في نفسهم شيء ، وما تنقصهم حاجة . والحمد لله الخير كثير ، والأولاد مش حاسين بأي نقص ، الله يديم المعروف .
وبقيت أسمع فخرها بأحفادها ، والخير الذي هم غارقين فيه ، حتى وصلنا السوق . قلت لها بأنني سأعيدها إلى البيت ، وانتظرت أرقبها وهي تفاصل مع بائع الجبنة والخبز ، ثم تشتري قليلاً من الجبن والطحينة وأربعة اقراص عيش سميط
سألتها بعد أن عادت: هذا هو العشاء ؟
قالت : ويزيد للفطور ، بركة ، يا ولدي ، بركة .
أحسست بغصة في حلقي ، وكرهت أن يكشفها صوتي فسكت .
ثم عدت أسألها بعد أن استعادت حديثها عن العيون المليانة و (الأولاد اللي مش ناقصهم شيء): بس يا أمي هذا لوحده يكفي؟ ما عندكم شئ غيره؟
قالت: الجود من الموجود ، والبطر مش منيح يا ابني . الحمدلله ، ناس مش لاقية اللقمة ، وإحنا بنفطر ونتغدى ونتعشى ، وليالي الجمعة بيجينا رز ولحم من المبرات وقصور الأفراح . كل شئ بناكل منه ، مش ناقصنا شيء
قلت: واللبس ؟
قالت : كل سنة بيبعثوا لنا أهل الخير هدمة نظيفة . يمكن بعضها ناقص زر ولا سحاب ، بس منيح الحمدلله....مش مستورين؟
اللي يحتاج لتصليح بنصلحه . يعني اللي بيشوفه ما يقول عنه قديم.
قلت: والسكن؟ كم غرفة؟
قالت: هي غرفة بس "بــــــراح" و "هـــــــاوية" ، ما منحتاج حتى مروحة . وفي الحر عندنا مراوح سعف ، ولاّ بـنـقعد في الفسحة مع الجارات صبح ومساء ، نعمة ولله الحمد.
قلت : وكم أنتم ؟
قالت: أنا وأمهم وثلاث بنات وأربعة أولاد ، الله يطرح البركة .
تركتها تعود إلى حديثها عن الخير والنعمة حتى وصلنا إلى بيتها . وعدت وأنا أستعرض شكوى أهلي من ضيق البيت بغرفه الأربع ، وقلة مصروف الأكل الذي يذهب كثير منه إلى مرامي البلدية ، وقدم الملابس التي لم يمر على بعضها شهور ، فخجلت .. وخجلت .. وبكيت