« تفتحت طفولتي على جثث أصدقائي وأبناء بلدتي، والله لقد رأيت أشلاء أجسادهم الطاهرة ملتصقة بجدار جامع قريتنا، وكان الدم يغطي كل شيء... لقد ذقنا المرار وحرمونا العيش بسلام منذ طفولتنا وقتلوا أهلنا دون استثناء أو تمييز بين شيخ وطفل.. وبعد كل هذا يطالبونا بالسلام...!!» كانت تلك أول العبارات التي نطق بها السيد محمد أحمد أبو حبل _مواليد قرية برير عام 1940م_، وكان مستاءً جدا من كل ما يسمع من الأخبار الرسمية في البلاد عن الهدن والسلام والاتفاقيات والمفاوضات.. وفي محاولتنا الرجوع إلى مرحلة طفولته التي حرم منها على حد قوله بدأ السيد محمد يصف تلك الأيام قائلاً:
«أذكر كل شيء من معالم القرية، أذكر الدارين الدار الجديدة والقديمة، وأذكر قطع الأراضي التي كنا نملكها وهي:قطعة كرم حوالي 32 دونماً، ,ارض في منطقة "قمصة" كنا نزرعها خضراوات، وكنا نملك "حكورتين" وقطع أخرى مبعثرة من الأراضي في مناطق عدة..
أذكر الوديان التي كنت ألعب فيها مع أصدقائي الأطفال، كنا نلعب ونمشي خلالها ونغني بفرح وابتهاج "ضق الواد يا عواد..شق المية يا عطية" .. أذكر الباحة التي كنا نلعب فيها والعلبة التنك التي كنا ندق عليها فتحدث صوتاً نغني على إيقاعه..لم نكن نشعر بأي حزن أو ضيق، كانت حياتنا سعيدة... »
*حدود القرية:
يذكر السيد أبو حبل أن قريته تقع إلى الشمال الشرقي من مدينة غزة وتبعد عنها بضعة كيلومترات وأنها كانت خالية تماما من اليهود ومستعمراتهم التي لم تكن حتى قريبة من قرية، ويعدد أسماء بعض القرى التي كانت تحيط بقريته من مختلف الجهات، ففي الشمال كانت تحدها قرية حليقات، ومن الجنوب قرية هوج، ومن الغرب قريتي سمسم ونجد، ومن الشرق عرب الثوابتة، ويصف طبيعتها بشبه الجبلية.
* مقاومة الإنجليز قبل عام 1948م:
يقول السيد محمد أن الإنجليز كانا يقومون بحملات تفتيش عن السلاح بسبب علميات المقاومة التي كانت قائمة آنذاك، وأثناء تلك الحملات كانوا يجمعون شباب القرية في ساحة واسعة تدعى «الجرون» وهي الساحة التي يتم تجميع الحبوب فيها أثناء موسم الحصاد...
ويضيف: « كان أهل البلد يقاومون مرور الإنجليز واليهود، فقد كان هناك بعض المستوطنات في الجنوب وكان اليهود يخافون المرور بالطريق المعبد الوحيد الواصل إلى الجنوب والمار بوسط قريتنا، لذا كانوا يمرون تحت حماية إنجليزية، وكان أهالي القرية يتصدون لهم ويقاومون مرورهم، فيسقط عدد من الشهداء من أبناء قريتنا أثناء مقاومتهم لهم..».
ويذكر العم محمد بحادثة قنبلة المولوتوف التي حاول أحد أبناء القرية إلقائها على ناقلة جند بريطانية وما نتج عن انفجارها من بتر يده وذراعه بسبب بدائية الأساليب التي كانوا يستخدمونها.. ويؤكد أن مستوى شباب قريته القتالي كان ضعيفاً وأسلحتهم بدائية وقديمة وقليلة العدد في حين كان اليهود ينعمون بأسلحة متطورة وكثيرة.
* هجمات اليهود ومقاومة الأهالي:
يقول العم محمد أبو غسان: « كان هناك عداء كبير من أهل القرية وبين اليهود بسبب مقاومة أهل القرية ومنعهم اليهود من دخول القرية، وكان انضم إلى مقاومي قريتنا عدد من المتطوعين المصريين شاركوا معهم في نزع الألغام.. وقد استشهد اثنين من أقربائي أثناء ذلك وهما محمد مصطفى عوكل الذي رأيت أعضاء جسده الممزقة أثناء نقلهم لها، ودبدوب سرحان..وأذكر صياح النساء وبكاءهن عليهما..
أذكر أنه في أحد هجمات اليهود على قريتنا كنت مع اثنين من أصدقائي نلعب قرب المسجد فداهم اليهود القرية، وبدأ صوت الرصاص يشتد والصراخ يعلو، فهربنا إلى داخل المسجد، ومن شدة الخوف صرنا نلف أجسادنا بالأغطية الموجودة في المسجد كي نخبئ أنفسنا، ولما طال الوقت تركت أصدقائي داخل المسجد وخرجت لأرقب لهم الطريق حتى نرجع إلى بيوتنا، واتجهت من باب قاعة الصلاة إلى المغاسل المقابلة لها، فاقترب صوت الجنود ورصاصهم من المكان، فدخلت إلى حمام المسجد واشتد الضرب والصراخ .. في حين التصقت أنا بجدار الحمام، وبعد فترة من الزمن هدأ الوضع وغابت أصوات الرصاص، فخرجت من الحمام لأجد أشلاء جثة أحد أبناء القرية ودمائه تغطي سور المسجد.. هذه المشاهد رأيتها ورآها جيلي من الأطفال وأبناء قريتي بأعينهم... فكيف يريدوننا اليوم أن نعقد سلام، عن أي سلام يتحدثون، نحن لم ولن ننسى كل تلك الجرائم المروعة التي اقترفها الصهاينة بحقنا وبأهلنا..
* المعركة الأخيرة:
دخل اليهود قريتنا عند فجر اليوم 15\5\1948م وهاجموها من ثلاث جهات وتركوا فقط الجهة الشمالية مفتوحة ، وكانوا يقصفون القرية بالمدافع وألحقوا خسائر كبيرة في القرية..وأذكر أن أمي وأبي رحمهما الله ذكروا حوالي (105) شهداء من رجال ونساء وأطفال قريتنا استشهدوا في ذلك الهجوم، ولم يذكر التاريخ هذه الحقيقة ولم يدونها أحد، وهذه الحقيقة هي التي جعلت جذور الحقد تنمو في نفسي ونفس جيلي من الأطفال ودفعتنا فيما بعد إلى العمل ضد العدو والانضمام إلى التنظيمات الفلسطينية كوسيلة لتحرير الأرض كما كنا نعتقد..
كان دفاعنا عن قريتنا في ذلك الهجوم ذاتياً باستثناء بعض الشباب المصريين الذين تطوعوا للمقاومة معنا، وقد تمركزا في مدرسة القرية وأيضاً استشهدوا ككثير من أهالي القرية، وأذكر أنّا لما غادرنا منزلنا هرباً من القصف المدفعي الصهيوني اشتعل حريق في بيتنا بسبب سقوط قذيفة على دارنا..
* مراحل الهجرة:
نتيجة احتلال العصابات اليهودية للقرية لجأنا إلى قرية حليقات شمال قريتنا، ولم نكن نحمل أي شيء فقد خرجنا دون شيء، فقد كان هم الأهالي النجاة بأنفسهم بعد انكسار المقاومة.. وأقامت أسرتي في منزل جدي (والد أمي)، أكر أن والدي صعد إلى سطح منزل جدي فصعدت خلفه وصرنا ننظر إلى النيران وهي تشتعل في قريتنا وإلى الدخان الصادر عنها، ورأينا "جرون" القمح والحبوب وهي تشتعل نتيجة القصف.. نظرت إلى والدي فرأيت الدموع تسيل من عينيه، فوقعت دموعه غصة في نفسي، وكانت تدفعني للتساؤل وأنا ما زلت طفلاً «لماذا يبكي أبي؟!» ولما عرفت الحقيقة آثرت نفسي وهيأتها لأكون عنصراً فاعلاً لخدمة وطني.
وبعد أن لحق بنا العدو إلى قرية "حليقات" وهاجمنا مجدداً لجأنا إلى قرية مجاورة تدعى "كوكبة" شمالي حليقات، فلحقوا بنا فلجأنا إلى قرية غربها تدعى "بيت طيمة" ومنها إلى مدينة المجدل "مجدل غزة" التي مكثنا فيها مدة قصيرة ثم هاجمها اليهود أيضاً وقصفوها فلجأنا إلى قرية "نعلْيا" التي تقع جنوب المجدل، وهي قرية ساحلية، ومنها إلى قرية بربرة ومنها لجأنا إلى عدة قرى باتجاه الجنوب حيث غزة، وكانت تلك الرحلة كلها عبر أراضي رملية..
ضياع أفراد الأسرة الواحدة:
أثناء رحلة اللجوء المرة التي عاشها الفلسطينيون وآستها أسرة العم محمد، وفي الطريق بين "بربرة" و"هربيا" كان هناك بيارة كبيرة ضاع أثناء اجتيازهم لها أفراد أسرة محمد عن بعضهم البعض ولم يدر أي منهم أين ذهب الآخر، ولم يلتم شملهم ثانية إلا في قرية "السلاطين" القريبة من "جباليا" غربي "بيت لاهيا"..
ويتابع العم محمد :« ولما وصلنا "جباليا" اتجهنا إلى قرية "خانيونس" ومنها عدنا ثانية إلى "جباليا"، وفي جميع المناطق والقرى التي لجأنا إليها لم يكن لدينا أي مأوى في أي منها، وكان ذلك حال معظم اللاجئين أمثالنا...».
* شربت زيت المضخة من العطش:
ويذكر العم محمد أنه أثناء الهجرة كان عطشان جداً ولم يكن أي أحد منهم يملك ماءً، وأثناء مروره بالبيارة وجد إبريق فيه زيت خاص بمضخة مياه البيارة _المتوقفة بسبب عدم وجود المياه_ فظن أنه ماء فشربه فإذ به زيت خاص بتشحيم تلك الآلية..
* اللجوء الثاني ومعاناة الفلسطيني في الدول العربية:
يقول العم أبو غسان: « أقمنا في "خانيونس" منذ عام 1950، وبعد حصولي على الثانوية العامة ذهبت إلى مصر وفي عام 1962م عدت إلى غزة، وعينت في عمل تابع لوزارة التعليم في مصر بالإسكندرية فعدت ثانية إلى مصر وتابعت تحصيلي العلمي أثناء عملي، كما شغلت آنذاك منصب أمين سر اتحاد عمال فلسطين في الإسكندرية، وعضو هيئته الإدارية، من ثم بدأ تشكيل اتحاد المعلمين الفلسطينيين في القاهرة وكنت عضوا في لجنته التنفيذية عام 1970 بعد تشكيله ومسؤول قسم الإعلام فيه، حتى العام 1975 حيث انتقلت إلى ليبيا للعمل هناك وكنت معلماً كما زوجتي التي تزوجتها عام 1972م، ويعد 12 عاماً من عملنا في سلك التدريس في ليبيا انتقلنا إلى سورية وبقينا فيها حتى هذه اللحظة..
اتجهت إلى سورية لأن مصر التي أحمل وثيقة سفر صادرة عنها ترفض دخولي أراضيها بسبب ما كنت أقوم به من نشاطات سياسية لخدمة قضية وطني، أما ليبيا فكانت كل يوم تصدر قرارات تهدد لقمة عيشنا ومصيرنا الحياتي والاجتماعي، ووجدت أن سورية هي البلد الأفضل من حيث معاملتها للاجئ الفلسطيني..
فأذكر أنني لما سافرت إلى مصر عام 1997م برفقة زوجتي المصرية، ورغم حصولي على تأشيرة لدخول مصر، حُجزت في مطار الإسكندرية ووضعت تحت الحراسة، ثم رُحّلت إلى مطار القاهرة أيضاً تحت الحراسة وبقيت جالساً على كرسي المطار حتى أرجعوني ثانية إلى سورية.. ومن هنا شعرت مرة أخرى بأهمية وجودي في سورية خلافاً لأي بلد عربي..